الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الطبري المسمى بـ «جامع البيان في تأويل آي القرآن» ***
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: هَلْ يَنْظُرُ الْمُكَذِّبُونَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا جَاءَ بِهِ، إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ؟. ثُمَّ اخْتَلَفَتِ الْقَرَأَةُ فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ: "وَالْمَلَائِكَةُ". فَقَرَأَ بَعْضُهُمْ: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ}، بِالرَّفْعِ، عَطْفًا بِـ "الْمَلَائِكَةِ" عَلَى اسْمِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، عَلَى مَعْنَى: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ وَالْمَلَائِكَةُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ يُوسُفَ عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ الْقَاسِمِ بْنِ سَلَامٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ الرَّازِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ قَالَ- فِي قِرَاءَةِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: "هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ وَالْمَلَائِكَةُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ"، قَالَ: تَأْتِي الْمَلَائِكَةُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ، وَيَأْتِي اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِيمَا شَاءَ. وَقَدْ حُدِّثْتُ هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ عَمَّارِ بْنِ الْحَسَنِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ قَوْلُهُ: "هَلْ {يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ} الْآيَةَ، وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الرَّازِيُّ: وَهِيَ فِي بَعْضِ الْقِرَاءَةِ: "هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ وَالْمَلَائِكَةُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ"، كَقَوْلِهِ: {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُـزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْـزِيلًا} [الْفُرْقَانِ: 25] وَقَرَأَ ذَلِكَ آخَرُونَ: "هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةِ" بِالْخَفْضِ عَطْفًا بِـ "الْمَلَائِكَةِ" عَلَى "الظُّلَلِ"، بِمَعْنَى: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَفِي الْمَلَائِكَةِ. وَكَذَلِكَ اخْتَلَفَتِ الْقَرَأَةُ فِي قِرَاءَةِ" ظُلَلٍ "، فَقَرَأَهَا بَعْضُهُمْ: "فِي ظُلَلٍ "، وَبَعْضُهُمْ: "فِي ظِلَالٍ". فَمَنْ قَرَأَهَا" فِي ظُلَلٍ "، فَإِنَّهُ وَجَّهَهَا إِلَى أَنَّهَا جَمْع"ظُلَّةٍ"، وَ "الظُلَّةُ"، تُجْمَعُ " ظُلَلٌ وَظِلَالٌ"، كَمَا تُجْمَعُ "الخُلَّةُ"، "خُلَلٌ وَخِلَالٌ"، وَ "الجُلَّةُ"، جُلَلٌ وَجِلَالٌ". وَأَمَّا الَّذِي قَرَأَهَا"فِي ظِلَالٍ"، فَإِنَّهُ جَعَلَهَا جَمْعُ "ظُلَّةٍ"، كَمَا ذَكَرْنَا مِنْ جَمْعِهِمُ "الْخَلَّةَ" "خِلَالٌ". وَقَدّ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَارِئُهُ كَذَلِكَ، وَجَّهَهُ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ جَمْعُ "ظِلٍّ"، لِأَنَّ "الظُّلَّةَ" وَ "الظِّلَّ" قَدْ يُجْمَعَانِ جَمِيعًا"ظِلَالًا". قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَالصَّوَابُ مِنَ الْقِرَاءَةِ فِي ذَلِكَ عِنْدِي: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ}، لِخَبَرٍ رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: (إِنَّ مِنَ الْغَمَامِ طَاقَاتٍ يَأْتِي اللَّهُ فِيهَا مَحْفُوفًا). فَدَلَّ بِقَوْلِهِ"طَاقَاتٍ"، عَلَى أَنَّهَا ظُلَلٌ لَا ظِلَالٌ، لِأَنَّ وَاحِدَ "الظُّلَلِ" "ظُلَّةٌ"، وَهِيَ الطَّاقُ وَاتِّبَاعًا لِخَطِّ الْمُصْحَفِ. وَكَذَلِكَالْوَاجِبُ فِي كُلِّ مَا اتَّفَقَتْ مَعَانِيهِ وَاخْتَلَفَتْ فِي قِرَاءَتِهِالْقَرَأَةُ، وَلَمْ يَكُنْ عَلَى إِحْدَى الْقِرَاءَتَيْنِ دَلَالَةٌ تَنْفَصِلُ بِهَا مِنَ الْأُخْرَى غَيْرَ اخْتِلَافِ خَطِّ الْمُصْحَفِ، فَالَّذِي يَنْبَغِي أَنْ تُؤْثَرَ قِرَاءَتُهُ مِنْهَا مَا وَافَقَ رَسْمَ الْمُصْحَفِ. وَأَمَّا الَّذِي هُوَ أَوْلَى الْقِرَاءَتَيْنِ فِي: "وَالْمَلَائِكَةُ"، فَالصَّوَابُ بِالرَّفْعِ، عَطْفًا بِهَا عَلَى اسْمِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، عَلَى مَعْنَى: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ، وَإِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ، عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، لِأَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ قَدْ أَخْبَرَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ كِتَابِهِ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ تَأْتِيهِمْ، فَقَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [الْفَجْرِ: 22]، وَقَالَ: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} [الْأَنْعَامِ: 158] فَإِنْ أَشْكَلَ عَلَى امْرِئٍ قَوْلُ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} فَظَنَّ أَنَّهُ مُخَالِفٌ مَعْنَاهُ مَعْنَى قَوْلِهِ: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ}، إِذْ كَانَ قَوْلُهُ: "وَالْمَلَائِكَةُ "فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِلَفْظِ جَمْعٍ، وَفِي الْأُخْرَى بِلَفْظِ الْوَاحِدِ. فَإِنَّ ذَلِكَ خَطَأٌ مِنَ الظَّنِّ، وَذَلِكَ أَنَّ "المَلَكَ" فِي قَوْلِهِ: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ} بِمَعْنَى الْجَمِيعِ، وَمَعْنَى" الْمَلَائِكَةِ".وَالْعَرَبُ تَذْكُرُ الْوَاحِدَ بِمَعْنَى الْجَمِيعِ، فَتَقُولُ: "فُلَانٌ كَثِيرُ الدِّرْهَمِ وَالدِّينَارِ" يُرَادُ بِهِ: الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ وَ"هَلَكَ الْبَعِيرُ وَالشَّاةُ"، بِمَعْنَى جَمَاعَةُ الْإِبِلِ وَالشَّاءِ، فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: "وَالْمَلَكُ" بِمَعْنَى "المَلَائِكَةِ". قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: ثُمَّ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي قَوْلِهِ: {ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ}، وَهَلْ هُوَ مِنْ صِلَةِ فِعْلِ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ، أَوْ مِنْ صِلَةِ فِعْلِ" الْمَلَائِكَةِ "، وَمَنِ الَّذِي يَأْتِي فِيهَا؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ مِنْ صِلَةِ فِعْلِ اللَّهِ، وَمَعْنَاهُ: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ، وَأَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ}، قَالَ: هُوَ غَيْرُ السَّحَابِ لَمْ يَكُنْ إِلَّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ فِي تِيهِهِمْ حِينَ تَاهُوا، وَهُوَ الَّذِي يَأْتِي اللَّهُ فِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُعَمِّرٌ، عَنْ قَتَادَةَ: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ}، قَالَ: يَأْتِيهِمُ اللَّهُ وَتَأْتِيهِمُ الْمَلَائِكَةُ عِنْدَ الْمَوْتِ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: قَالَ عِكْرِمَةُ فِي قَوْلِهِ: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ}، قَالَ: طَاقَاتٌ مِنَ الْغَمَامِ، وَالْمَلَائِكَةُ حَوْلَهُ قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ، وَقَالَ غَيْرُهُ: وَالْمَلَائِكَةُ بِالْمَوْتِ وَقَوْلُ عِكْرِمَةَ هَذَا، وَإِنْ كَانَ مُوَافِقًا قَوْلَ مَنْ قَالَ: إِنَّ قَوْلَهُ: {فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ} مِنْ صِلَةِ فِعْلِ الرَّبِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى الَّذِي قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُنَاهُ، فَإِنَّهُ لَهُ مُخَالِفٌ فِي صِفَةِ الْمَلَائِكَةِ. وَذَلِكَ أَنَّ الْوَاجِبَ مِنَ الْقِرَاءَةِ عَلَى تَأْوِيلِ قَوْلِ عِكْرِمَةَ هَذَا فِي" الْمَلَائِكَة" الْخَفْضُ، لِأَنَّهُ تَأَوَّلَ الْآيَةَ: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَّلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَفِي الْمَلَائِكَةِ، لِأَنَّهُ زَعَمَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَأْتِي فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ حَوْلَهُ. هَذَا إِنْ كَانَ وَجَّهَ قَوْلَهُ: "وَالْمَلَائِكَةُ حَوْلَهُ"، إِلَى أَنَّهُمْ حَوْلَ الْغَمَامِ، وَجَعَلَ "الهَاءَ" فِي"حَوْلِهِ" مِنْ ذِكْرِ" الْغَمَامِ". وَإِنْ كَانَ وَجَّهَ قَوْلَهُ: "وَالْمَلَائِكَةُ حَوْلَهُ" إِلَى أَنَّهُمْ حَوْلَ الرَّبِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وَجَعَلَ "الهَاءَ" فِي"حَوْلِهِ" مِنْ ذِكْرِ الرَّبِّ عَزَّ جَلَّ، فَقَوْلُهُ نَظِيرُ قَوْلِ الْآخَرِينَ الَّذِينَ قَدْ ذَكَرْنَا قَوْلَهُمْ، غَيْرُ مُخَالِفِهِمْ فِي ذَلِكَ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ قَوْلُهُ: {فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ} مِنْ صِلَةِ فِعْلِ "المَلَائِكَةِ"، وَإِنَّمَا تَأْتِي الْمَلَائِكَةُ فِيهَا، وَأَمَّا الرَّبُّ تَعَالَى ذِكْرُهُ فَإِنَّهُ يَأْتِي فِيمَا شَاءَ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارِ بْنِ الْحَسَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ فِي قَوْلِهِ: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ} الْآيَةَ، قَالَ: ذَلِكَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، تَأْتِيهِمُ الْمَلَائِكَةُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ. قَالَ: الْمَلَائِكَةُ يَجِيئُونَ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ، وَالرَّبُّ تَعَالَى يَجِيءُ فِيمَا شَاءَ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى التَّأْوِيلَيْنِ بِالصَّوَابِ فِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَنْ وَجَّهَ قَوْلَهُ: {فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ} إِلَى أَنَّهُ مِنْ صِلَةِ فِعْلِ الرَّبِّ عَزَّ وَجَلَّ، وَأَنَّ مَعْنَاهُ: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ، وَتَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ، لِمَا:- حَدَّثَنَا بِهِ مُحَمَّدُ بْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُخْتَارِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ زَمْعَةَ بْنِ صَالِحٍ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ وَهْرَامَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِنَّ مِنَ الْغَمَامِ طَاقَاتٍ يَأْتِي اللَّهُ فِيهَا مَحْفُوفًا، وَذَلِكَ قَوْلُهُ: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ}. وَأَمَّا مَعْنَى قَوْلِهِ: "هَلْ يَنْظُرُونَ "، فَإِنَّهُ مَا يَنْظُرُونَ، وَقَدْ بَيَّنَا ذَلِكَ بِعِلَلِهِ فِيمَا مَضَى مِنْ كِتَابِنَا هَذَا قَبْلُ. ثُمَّ اخْتُلِفَ فِيصِفَةِ إِتْيَانِ الرَّبِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى الَّذِي ذَكَرَهُ فِي قَوْلِهِ: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ}. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا صِفَةَ لِذَلِكَ غَيْرَ الَّذِي وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنَ الْمَجِيءِ وَالْإِتْيَانِ وَالنُّـزُولِ، وَغَيْرُ جَائِزٍ تَكَلُّفُ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ لِأَحَدٍ إِلَّا بِخَبَرٍ مِنَ اللَّهِ جَلَّ جَلَالُهُ، أَوْ مِنْ رَسُولٍ مُرْسَلٍ. فَأَمَّا الْقَوْلُ فِي صِفَاتِ اللَّهِ وَأَسْمَائِهِ، فَغَيْرُ جَائِزٍ لِأَحَدٍ مِنْ جِهَةِ الِاسْتِخْرَاجِ إِلَّا بِمَا ذَكَرْنَا. وَقَالَ آخَرُونَ: إِتْيَانُهُ عَزَّ وَجَلَّ، نَظِيرُ مَا يُعْرَفُ مِنْ مَجِيءِ الْجَائِي مِنْ مَوْضِعٍ إِلَى مَوْضِعٍ، وَانْتِقَالِهِ مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ. وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى قَوْلِهِ: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ}، يَعْنِي بِهِ: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللَّهِ، كَمَا يُقَالُ: "قَدْ خَشِينَا أَنْ يَأْتِيَنَا بَنُو أُمَيَّةَ "، يُرَادُ بِهِ: حُكْمُهُمْ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ مَعْنَى ذَلِكَ: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمْ ثَوَابُهُ وَحِسَابُهُ وَعَذَابُهُ، كَمَا قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} [سَبَأٍ: 33] وَكَمَا يُقَالُ: "قَطَعَ الْوَالِي اللِّصَّ أَوْ ضَرَبَهُ"، وَإِنَّمَا قَطَعَهُ أَعْوَانُهُ. وَقَدّ بَيَّنَّا مَعْنَى "الغَمَامِ" فِيمَا مَضَى مِنْ كِتَابِنَا هَذَا قَبْلُ فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ تَكْرِيرِهِ، لِأَنَّ مَعْنَاهُ هَهُنَا هُوَ مَعْنَاهُ هُنَالِكَ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: فَمَعْنَى الْكَلَامِ إذًا: هَلْ يَنْظُرُ التَّارِكُونَ الدُّخُولَ فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَالْمُتَّبِعُونَ خُطُوَات الشَّيْطَانِ، إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ، فَيَقْضِي فِي أَمْرِهِمْ مَا هُوَ قَاضٍ. حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُحَارِبِيُّ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ رَافِعٍ الْمَدِينِيِّ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي زِيَادٍ، عَنْ رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (تُوقَفُونَ مَوْقِفًا وَاحِدًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِقْدَارَ سَبْعِينَ عَامًا، لَا يُنَظَرُ إِلَيْكُمْ وَلَا يُقَضَي بَيْنَكُمْ، قَدْ حُصِرَ عَلَيْكُمْ، فَتَبْكُونَ حَتَّى يَنْقَطِعَ الدَّمْعُ، ثُمَّ تَدْمَعُونَ دَمًا، وَتَبْكُونَ حَتَّى يَبْلُغَ ذَلِكَ مِنْكُمُ الْأَذْقَانَ، أَوْ يُلْجِمَكُمْ فَتَصِيحُونَ، ثُمَّ تَقُولُونَ: مَنْ يَشْفَعُ لَنَا إِلَى رَبِّنَا فَيَقْضِيَ بَيْنَنَا؟ فَيَقُولُونَ مَنْ أَحَقُّ بِذَلِكَ مِنْ أَبِيكُمْ آدَمَ؟ جَبَلِ اللَّهِ تُرْبَتُهُ، وَخَلَقَهُ بِيَدِهِ، وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ، وَكَلَّمَهُ قِبَلًا فَيُؤْتَى آدَمُ، فَيُطْلَبُ ذَلِكَ إِلَيْهِ، فَيَأْبَى، ثُمَّ يَسْتَقْرِئُونَ الْأَنْبِيَاءَ نَبِيًّا نَبِيًّا، كُلَّمَا جَاءُوا نَبِيًّا أَبَى، قَالَ رَسُولَُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: حَتَّى يَأْتُونِي، فَإِذَا جَاءُونِي خَرَجْتُ حَتَّى آتِيَ الْفَحْصَ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا الْفَحْصُ؟ قَالَ: قُدَّامَ الْعَرْشِ فَأَخِرُّ سَاجِدًا، فَلَا أَزَالُ سَاجِدًا حَتَّى يَبْعَثَ اللَّهُ إِلَيَّ مَلَكًا، فَيَأْخُذُ بِعَضُدَيَّ فَيَرْفَعُنِي، ثُمَّ يَقُولُ اللَّهُ لِي: يَا مُحَمَّدُ ! فَأَقُولُ: نَعَمْ! وَهُوَ أَعْلَمُ. فَيَقُولُ: مَا شَأْنُكَ؟ فَأَقُولُ: يَا رَبِّ وَعَدْتَنِي الشَّفَاعَةَ، فَشَفِّعْنِي فِي خَلْقِكَ، فَاقْضِ بَيْنَهُمْ. فَيَقُولُ: قَدْ شَفَّعْتُكَ، أَنَا آتِيكُمْ فَأَقْضِي بَيْنَكُمْ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فَأَنْصَرِفُ حَتَّى أَقِفَ مَعَ النَّاسِ، فَبَيْنَا نَحْنُ وُقُوفٌ سَمِعْنَا حِسًّا مِنَ السَّمَاءِ شَدِيدًا، فَهَالَنَا، فَنَـزَلَ أَهْلُ السَّمَاءِ الدُّنْيَا بِمِثْلَيْ مَنْ فِي الْأَرْضِ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ، حَتَّى إِذَا دَنَوْا مِنَ الْأَرْضِ أَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِهِمْ، وَأَخَذُوا مَصَافَّهُمْ، فَقُلْنَا لَهُمْ: أَفِيكُمْ رَبُّنَا؟ قَالُوا: لَا! وَهُوَ آتٍ. ثُمَّ نَـزَلَ أَهْلُ السَّمَاءِ الثَّانِيَةِ بِمِثْلَيْ مَنْ نَـزَلَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَبِمِثْلَيْ مَنْ فِيهَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ، حَتَّى إِذَا دَنَوْا مِنَ الْأَرْضِ أَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِهِمْ، وَأَخَذُوا مَصَافَّهُمْ، فَقُلْنَا لَهُمْ: أَفِيكُمْ رَبُّنَا؟ قَالُوا: لَا! وَهُوَ آتٍ. ثُمَّ نَـزَلَ أَهْلُ السَّمَاءِ الثَّالِثَةِ بِمِثْلَيْ مَنْ نَـزَلَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَبِمِثْلَيْ مَنْ فِي الْأَرْضِ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ حَتَّى إِذَا دَنَوْا مِنَ الْأَرْضِ أَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِهِمْ، وَأَخَذُوا مَصَافَّهُمْ، فَقُلْنَا لَهُمْ: أَفِيكُمْ رَبُّنَا؟ قَالُوا: لَا! وَهُوَ آتٍ، ثُمَّ نَـزَلَ أَهْلُ السَّمَوَاتِ عَلَى عَدَدِ ذَلِكَ مِنَ التَّضْعِيفِ، حَتَّى نَـزَلَ الْجَبَّارُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةِ، وَلَهُمْ زَجَلٌ مِنْ تَسْبِيحِهِمْ يَقُولُونَ: "سُبْحَانَ ذِي الْمُلْكِ وَالْمَلَكُوتِ! سُبْحَانَ رَبِّ الْعَرْشِ ذِي الْجَبَرُوتِ! سُبْحَانَ الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ! سُبْحَانَ الَّذِي يُمِيتُ الْخَلَائِقَ وَلَا يَمُوتُ! سُبُّوحٌ قُدُّوسٌ، رَبُّ الْمَلَائِكَةِ وَالرُّوحِ! قُدُّوسٌ قُدُّوسٌ! سُبْحَانَ رَبِّنَا الْأَعْلَى! سُبْحَانَ ذِي السُّلْطَانِ وَالْعَظْمَةِ! سُبْحَانَهُ أَبَدًا أَبَدًا"! فَيَنْـزِلُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، يَحْمِلُ عَرْشَهُ يَوْمئِذٍ ثَمَانِيَةٌ، وَهُمُ الْيَوْمَ أَرْبَعًا، أَقْدَامُهُمْ عَلَى تُخُومِ الْأَرْضِ السُّفْلَى وَالسَّمَوَاتُ إِلَى حُجُزِهِمْ، وَالْعَرْشُ عَلَى مَنَاكِبِهِمْ. فَوَضَعَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَرْشَهُ حَيْثُ شَاءَ مِنَ الْأَرْضِ، ثُمَّ يُنَادِي مُنَادٍ نِدَاءً يُسْمِعُ الْخَلَائِقَ، فَيَقُولُ: يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِّي قَدْ أَنْصَتُّ مُنْذُ يَوْمِ خَلَقْتُكُمْ إِلَى يَوْمِكُمْ هَذَا، أَسْمَعُ كَلَامَكُمْ، وَأُبْصِرُ أَعْمَالَكُمْ، فَأَنْصِتُوا إِلَىَّ، فَإِنَّمَا هُوَ صُحُفُكُمْ وَأَعْمَالُكُمْ تُقْرَأُ عَلَيْكُمْ، فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ! فَيَقْضِي اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بَيْنَ خَلْقِهِ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالْبَهَائِمِ، فَإِنَّهُ لَيُقْتَصُّ يَوْمئِذٍ لِلْجَمَّاءِ مِنْ ذَاتِ الْقَرْن). قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَهَذَا الْخَبَرُ يَدُلُّ عَلَى خَطَأِ قَوْلِ قَتَادَةَ فِي تَأْوِيلِهِ قَوْلَهُ: "وَالْمَلَائِكَةُ "أَنَّهُ يَعْنِي بِهِ الْمَلَائِكَةَ تَأْتِيهِمْ عِنْدَ الْمَوْتِ. لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ أَنَّهُمْ يَأْتُونَهُمْ بَعْدَ قِيَامِ السَّاعَةِ فِي مَوْقِفِ الْحِسَابِ، حِينَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ، وَبِمِثْلِ ذَلِكَ رُوِيَ الْخَبَرُ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعَيْنِ، كَرِهْنَا إِطَالَةَ الْكِتَابِ بِذِكْرِهِمْ وَذِكْرِ مَا قَالُوا فِي ذَلِكَ، وَيُوَضِّحُ أَيْضًا صِحَّةَ مَا اخْتَرْنَا فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ: "وَالْمَلَائِكَة" بِالرَّفْعِ عَلَى مَعْنَى: وَتَأْتِيهِمُ الْمَلَائِكَةُ وَيُبَيِّنُ عَنْ خَطَأِ قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ ذَلِكَ بِالْخَفْضِ، لِأَنَّهُ أَخْبَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ تَأْتِي أَهْلَ الْقِيَامَةِ فِي مَوْقِفِهِمْ حِينَ تَفَطَّرُ السَّمَاءُ، قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَهُمْ رَبُّهُمْ، فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ. إِلَّا أَنْ يَكُونَ قَارِئُ ذَلِكَ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنَى بِقَوْلِهِ ذَلِكَ: إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ، وَفِي الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ يَأْتُونَ أَهْلَ الْمَوْقِفِ حِينَ يَأْتِيهِمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ وَجْهًا مِنَ التَّأْوِيلِ، وَإِنْ كَانَ بَعِيدًا مِنْ قَوْلِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَدَلَالَةِ الْكِتَابِ وَآثَارِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الثَّابِتَةِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِذَلِكَ: وَفُصِلَ الْقَضَاءُ بِالْعَدْلِ بَيْنَ الْخَلْقِ، عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ قَبْلُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مِنْ أَخْذِ الْحَقِّ لِكُلِّ مَظْلُومٍ مِنْ كُلِّ ظَالِمٍ، حَتَّى الْقِصَاصِ لِلْجَمَّاءِ مِنَ الْقَرْنَاءِ مِنَ الْبَهَائِم). وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ}، فَإِنَّهُ يَعْنِي: وَإِلَى اللَّهِ يَؤُولُ الْقَضَاءُ بَيْنَ خَلْقِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَالْحُكْمُ بَيْنَهُمْ فِي أُمُورِهِمُ الَّتِي جَرَتْ فِي الدُّنْيَا، مِنْ ظُلْمِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، وَاعْتِدَاءِ الْمُعْتَدِي مِنْهُمْ حُدُودَ اللَّهِ، وَخِلَافِ أَمْرِهِ، وَإِحْسَانِ الْمُحْسِنِ مِنْهُمْ، وَطَاعَتِهِ إِيَّاهُ فِيمَا أَمَرَهُ بِهِ- فَيَفْصِلُ بَيْنَ الْمُتَظَالِمِينَ، وَيُجَازِي أَهْلَ الْإِحْسَانِ بِالْإِحْسَانِ، وَأَهْلَ الْإِسَاءَةِ بِمَا رَأَى، وَيَتَفَضَّلُ عَلَى مَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ كَافِرًا فَيَعْفُو. وَلِذَلِكَ قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ}، وَإِنْ كَانَتْ أُمُورُ الدُّنْيَا كُلُّهَا وَالْآخِرَةِ، مِنْ عِنْدِهِ مَبْدَؤُهَا، وَإِلَيْهِ مَصِيرُهَا، إِذْ كَانَ خَلْقُهُ فِي الدُّنْيَا يَتَظَالَمُونَ، وَيَلِي النَّظَرَ بَيْنَهُمْ أَحْيَانًا فِي الدُّنْيَا بَعْضُ خَلْقِهِ، فَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ بَعْضُ عَبِيدِهِ، فَيَجُورُ بَعْضٌ وَيَعْدِلُ بَعْضٌ، وَيُصِيبُ وَاحِدٌ وَيُخْطِئُ وَاحِدٌ، وَيُمَكَّنُ مِنْ تَنْفِيذِ الْحُكْمِ عَلَى بَعْضٍ، وَيَتَعَذَّرُ ذَلِكَ عَلَى بَعْضٍ، لِمَنَعَةِ جَانِبِهِ وَغَلَبَتِهِ بِالْقُوَّةِ. فَأَعْلَمَ عِبَادَهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ أَنَّ مَرْجِعَ جَمِيعِ ذَلِكَ إِلَيْهِ فِي مَوْقِفِ الْقِيَامَةِ، فَيُنْصِفُ كُلًّا مِنْ كُلٍّ، وَيُجَازِي حَقَّ الْجَزَاءِ كُلًّا حَيْثُ لَا ظُلْمَ وَلَا مُمْتَنِعَ مِنْ نُفُوذِ حُكْمِهِ عَلَيْهِ، وَحَيْثُ يَسْتَوِي الضَّعِيفُ وَالْقَوِيُّ، وَالْفَقِيرُ وَالْغَنِيُّ، وَيَضْمَحِلُّ الظُّلْمُ وَيَنْـزِلُ سُلْطَانُ الْعَدْلِ. وَإِنَّمَا أَدْخَلَ جَلَّ وَعَزَّ" الْأَلِفَ وَاللَّامَ" فِي "الأُمُورِ"، لِأَنَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ عَنَى بِهَا جَمِيعَ الْأُمُورِ، وَلَمْ يَعْنِ بِهَا بَعْضًا دُونَ بَعْضٍ، فَكَانَ ذَلِكَ بِمَعْنَى قَوْلِ الْقَائِلِ: "يُعْجِبُنِي الْعَسَلُ- وَالْبَغْلُ أَقْوَى مِنَ الْحِمَارِ"، فَيُدْخِلُ فِيهِ "الأَلِفَ وَاللَّامَ"، لِأَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ بِهِ قَصْدَ بَعْضٍ دُونَ بَعْضٍ، إِنَّمَا يُرَادُ بِهِ الْعُمُومُ وَالْجَمْعُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ عَزَّ ذِكْرُهُ {سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: سَلْ يَا مُحَمَّدُ بَنِي إِسْرَائِيلَ الَّذِينَ لَا يَنْتَظِرُونَ- بِالْإِنَابَةِ إِلَى طَاعَتِي، وَالتَّوْبَةِ إِلَيَّ بِالْإِقْرَارِ بِنُبُوَّتِكَ وَتَصْدِيقِكَ فِيمَا جِئْتَهُمْ بِهِ مِنْ عِنْدِي- إِلَّا أَنْ آتِيهِمْ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَمَلَائِكَتِي، فَأَفْصِلُ الْقَضَاءَ بَيْنَكَ وَبَيْنَ مَنْ آمَنَ بِكَ وَصَدَّقَكَ بِمَا أَنْـزَلْتُ إِلَيْكَ مِنْ كُتُبِي، وَفَرَضْتُ عَلَيْكَ وَعَلَيْهِمْ مِنْ شَرَائِعِ دِينِي، وَبَيْنَهُمْ كَمْ جِئْتُهُمْ بِهِ مِنْ قَبْلِكَ مِنْ آيَةٍ وَعَلَامَةٍ، عَلَى مَا فَرَضْتُ عَلَيْهِمْ مِنْ فَرَائِضِي، فَأَمَرْتُهُمْ بِهِ مِنْ طَاعَتِي، وَتَابَعْتُ عَلَيْهِمْ مِنْ حُجَجِي عَلَى أَيْدِي أَنْبِيَائِي وَرُسُلِي مِنْ قَبْلِكَ، مُؤَيِّدَةً لَهُمْ عَلَى صِدْقِهِمْ، بَيِّنَةً أَنَّهَا مِنْ عِنْدِي، وَاضِحَةً أَنَّهَا مِنْ أَدِلَّتِي عَلَى صِدْقِ نُذُري وَرُسُلِي فِيمَا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِمْ مِنْ تَصْدِيقِهِمْ وَتَصْدِيقِكَ، فَكَفَرُوا حُجَجِي، وَكَذَّبُوا رُسُلِي، وَغَيَّرُوا نِعَمِي قِبَلَهُمْ، وَبَدَّلُوا عَهْدِي وَوَصِيَّتِي إِلَيْهِمْ. وَأَمَّا "الآيَةُ"، فَقَدْ بَيَّنْتُ تَأْوِيلَهَا فِيمَا مَضَى مِنْ كِتَابِنَا بِمَا فِيهِ الْكِفَايَةُ وَهِيَ هَاهُنَا. مَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ}، مَا ذَكَرَ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ وَمَا لَمْ يَذْكُرْ، وَهُمُ الْيَهُودُ. حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ قَوْلُهُ: {سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ}، يَقُولُ: آتَاهُمُ اللَّهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ: عَصَا مُوسَى وَيَدَهُ، وَأَقْطَعَهُمُ الْبَحْرَ، وَأَغْرَقَ عَدُوَّهُمْ وَهُمْ يَنْظُرُونَ، وَظَلَّلَ عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ، وَأَنْـزَلَ عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى، وَذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ الَّتِي آتَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ غَيْرِهَا، خَالَفُوا مَعَهَا أَمْرَ اللَّهِ، فَقَتَلُوا أَنْبِيَاءَ اللَّهِ وَرُسُلَهُ، وَبَدَّلُوا عَهْدَهُ وَوَصِيَّتَهُ إِلَيْهِمْ، قَالَ اللَّهُ: {وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَإِنَّمَا أَنْبَأَ اللَّهُ نَبِيَّهُ بِهَذِهِ الْآيَاتِ، فَأَمَرَهُ بِالصَّبْرِ عَلَى مَنْ كَذَّبَهُ، وَاسْتَكْبَرَ عَلَى رَبِّهِ، وَأَخْبَرَهُ أَنَّ ذَلِكَ فِعْلُ مَنْ قَبْلَهُ مِنْ أَسْلَافِ الْأُمَمِ قَبْلَهُمْ بِأَنْبِيَائِهِمْ، مَعَ مُظَاهَرَتِهِ عَلَيْهِمُ الْحُجَجَ، وَأَنَّ مَنْ هُوَ بَيْنَ أظهُرِهِمْ مِنَ الْيَهُودِ إِنَّمَا هُمْ مِنْ بَقَايَا مَنْ جَرَتْ عَادَتُهُمْ [بِذَلِكَ]، مِمَّنْ قَصَّ عَلَيْهِ قِصَصَهُمْ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي"بِالنِّعَمِ" جَلَّ ثَنَاؤُهُ: الْإِسْلَامَ وَمَا فَرَضَ مِنْ شَرَائِعِ دِينِهِ. وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ: {وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ} وَمَنْ يُغَيِّرْ مَا عَاهَدَ اللَّهَ فِي نِعْمَتِهِ الَّتِي هِيَ الْإِسْلَامُ، مِنَ الْعَمَلِ وَالدُّخُولِ فِيهِ فَيَكْفُرْ بِهِ، فَإِنَّهُ مُعَاقِبُهُ بِمَا أَوْعَدَ عَلَى الْكَفْرِ بِهِ مِنَ الْعُقُوبَةِ، وَاللَّهُ شَدِيدٌ عِقَابُهُ، أَلِيمٌ عَذَابُهُ. فَتَأْوِيلُ الْآيَةِ إذًا يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بِالتَّوْرَاةِ فَصَدَّقُوا بِهَا، ادْخُلُوا فِي الْإِسْلَامِ، جَمِيعًا وَدَعُوا الْكُفْرَ، وَمَا دَعَاكُمْ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ مِنْ ضَلَالَتِهِ، وَقَدْ جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ مِنْ عِنْدِي بِمُحَمَّدٍ، وَمَا أَظْهَرْتُ عَلَى يَدَيْهِ لَكُمْ مِنَ الْحُجَجِ وَالْعِبَرِ، فَلَا تُبَدِّلُوا عَهْدِي إِلَيْكُمْ فِيهِ وَفِيمَا جَاءَكُمْ بِهِ مِنْ عِنْدِي فِي كِتَابِكُمْ بِأَنَّهُ نَبِيِّي وَرَسُولِي، فَإِنَّهُ مَنْ يُبَدِّلْ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَيُغَيِّرْهُ فَإِنَّى لَهُ مُعَاقِبٌ بِالْأَلِيمِ مِنَ الْعُقُوبَةِ. وَبِمَثَلِ الَّذِي قُلْنَا فِي قَوْلِهِ: {وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ}، قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍٍ فِي قَوْلِهِ: {وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ}، قَالَ: يَكْفُرُ بِهَا. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ. حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطُ، عَنِ السُّدِّيِّ: {وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ}، قَالَ: يَقُولُ: مَنْ يُبَدِّلُهَا كُفْرًا. حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ {وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ}، يَقُولُ: وَمَنْ يَكْفُرْ نِعْمَتَهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِذَلِكَ: زُيِّنَ لِلَّذِينِ كَفَرُوا حُبُّ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا الْعَاجِلَةِ اللَّذَّاتِ، فَهُمْ يَبْتَغُونَ فِيهَا الْمُكَاثَرَةَ وَالْمُفَاخَرَةَ، وَيَطْلُبُونَ فِيهَا الرِّيَاسَاتِِ وَالْمُبَاهَاةَ، وَيَسْتَكْبِرُونَ عَنِ اتِّبَاعِكَ يَا مُحَمَّدُ، وَالْإِقْرَارِ بِمَا جِئْتَ بِهِ مِنْ عِنْدِي، تَعَظُّمًا مِنْهُمْ عَلَى مَنْ صَدَّقَكَ وَاتَّبَعَكَ، وَيَسْخَرُونَ بِمَنْ تَبِعَكَ مِنْ أَهْلِ، الْإِيمَانِ، وَالتَّصْدِيقِ بِكَ، فِي تَرْكِهِمُ الْمُكَاثَرَةَ، وَالْمُفَاخَرَةَ بِالدُّنْيَا وَزِينَتَهَا مِنَ الرِّيَاشِ وَالْأَمْوَالِ، بِطَلَبِ الرِّيَاسَاتِ وَإِقْبَالِهِمْ عَلَى طَلَبِهِمْ مَا عِنْدِي بِرَفْضِ الدُّنْيَا وَتَرْكِ زِينَتِهَا، وَالَّذِينَ عَمِلُوا لِي وَأَقْبَلُوا عَلَى طَاعَتِي، وَرَفَضُوا لَذَّاتِ الدُّنْيَا وَشَهَوَاتِهَا، اتِّبَاعًا لَكَ، وَطَلَبًا لِمَا عِنْدِي، وَاتِّقَاءً مِنْهُمْ بِأَدَاءِ فَرَائِضِي، وَتَجَنُّبِ مَعَاصِيَّ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، بِإِدْخَالِ الْمُتَّقِينَ الْجَنَّةَ، وَإِدْخَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا النَّارَ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ مِنَ التَّأْوِيلِ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَوْلُهُ: {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا}، قَالَ: الْكُفَّارُ يَبْتَغُونَ الدُّنْيَا وَيَطْلُبُونَهَا {وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا}، فِي طَلَبِهِمُ الْآخِرَةَ- قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: لَا أَحْسَبُهُ إِلَّ عَنْ عِكْرِمَةَ، قَالَ: قَالُوا: لَوْ كَانَ مُحَمَّدٌ نَبِيًّا كَمَا يَقُولُ، لَاتَّبَعَهُ أَشْرَافُنَا وَسَادَاتُنَا! وَاللَّهِ مَا اتَّبَعَهُ إِلَّا أَهْلُ الْحَاجَةِ مِثْلَ ابْنِ مَسْعُودٍ ! حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُعَمِّرٌ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}، قَالَ: "فَوْقَهُمْ " فِي الْجَنَّةِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَيَعْنِي بِذَلِكَ: وَاللَّهُ يُعْطِي الَّذِينَ اتَّقَوْا يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ نِعَمِهِ وَكَرَامَاتِهِوَجَزِيلِ عَطَايَاهُ، بِغَيْرِ مُحَاسَبَةٍ مِنْهُ لَهُمْ عَلَى مَا مَنَّ بِهِ عَلَيْهِمْ مِنْ كَرَامَتِهِ. فَإِنْ قَالَ لَنَا قَائِلٌ: وَمَا فِي قَوْلِهِ: {يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} مِنَ الْمَدْحِ؟ قِيلَ: الْمَعْنَى الَّذِي فِيهِ مِنَ الْمَدْحِ، الْخَبَرُ عَنْ أَنَّهُ غَيْرُ خَائِفٍ نَفَادَ خَزَائِنِهِ، فَيَحْتَاجُ إِلَى حِسَابِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا، إِذْ كَانَ الْحِسَابُ مِنَ الْمُعْطِي إِنَّمَا يَكُونُ لِيَعْلَمَ قَدْرَ الْعَطَاءِ الَّذِي يَخْرُجُ مِنْ مِلْكِهِ إِلَى غَيْرِهِ، لِئَلَّا يَتَجَاوَزَ فِي عَطَايَاهُ إِلَى مَا يُجْحِفُ بِهِ، فَرَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى غَيْرُ خَائِفٍ نَفَادَ خَزَائِنِهِ، وَلَا انْتِقَاصَ شَيْءٍ مِنْ مُلْكِهِ، بِعَطَائِهِ مَا يُعْطِي عِبَادَهُ، فَيَحْتَاجُ إِلَى حِسَابِ مَا يُعْطِي، وَإِحْصَاءِ مَا يُبْقِي. فَذَلِكَ الْمَعْنَى الَّذِي فِي قَوْلِهِ: {وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ}.
الْقَوْل فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْـزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي مَعْنَى "الأُمَّةِ": فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، وَفِي" النَّاسِ " الَّذِينَ وَصَفَهُمُ اللَّهُ بِأَنَّهُمْ: كَانُوا أُمَّةً وَاحِدَةً. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُمُ الَّذِينَ كَانُوا بَيْنَ آدَمَ وَنُوحٍ، وَهْمْ عَشَرَةُ قُرُونٍ، كُلُّهُمْ كَانُوا عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْحَقِّ، فَاخْتَلَفُوا بَعْدَ ذَلِكَ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا هَمَّامُ بْنُ مُنَبِّهٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كَانَ بَيْنَ نُوحٍ وَآدَمَ عَشَرَةُ قُرُونٍ، كُلُّهُمْ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْحَقِّ، فَاخْتَلَفُوا، فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ، قَالَ: وَكَذَلِكَ هِيَ فِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ "كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا". حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُعَمِّرٌ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً}، قَالَ: كَانُوا عَلَى الْهُدَى جَمِيعًا فَاخْتَلَفُوا، فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ، فَكَانَ أَوَّلَ نَبِيٍّ بُعِثَ نُوحٌ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: فَتَأْوِيلُ "الأُمَّةِ" عَلَى هَذَا الْقَوْلِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ "الدِّينُ"، كَمَا قَالَ النَّابِغَةُ الذُّبْيَانِيُّ: حَـلَفْتُ فَلَـمْ أَتْـرُكْ لِنَفْسِـكَ رِيبَـةً *** وَهَـلْ يَـأثَمَنَّ ذُو أُمَّـةٍ وَهْـوَ طَائِعُ؟ يَعْنِي ذَا الدِّينِ. فَكَانَ تَأْوِيلُ الْآيَةِ عَلَى مَعْنَى قَوْلِ هَؤُلَاءِ: كَانَ النَّاسُ أُمَّةً مُجْتَمِعَةً عَلَى مِلَّةٍ وَاحِدَةٍ وَدِينٍ وَاحِدٍ فَاخْتَلَفُوا، فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ. وَأَصْلُ "الأُمَّةِ"، الْجَمَاعَةُ تَجْتَمِعُ عَلَى دِينٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ يُكْتَفَى بِالْخَبَرِ عَنِ "الأُمَّةِ" مِنَ الْخَبَرِ عَنِ "الدِّينِ"، لِدَلَالَتِهَا عَلَيْهِ، كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} [سُورَةُ الْمَائِدَةِ: 48، سُورَةُ النَّحْلِ: 93]، يُرَادُ بِهِ أَهْلُ دِينٍ وَاحِدٍ وَمِلَّةٍ وَاحِدَةٍ. فَوَجَّهَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي تَأْوِيلِهِ قَوْلَهُ: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً}، إِلَى أَنَّ النَّاسَ كَانُوا أَهْلَ دِينٍ وَاحِدٍ حَتَّى اخْتَلَفُوا. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ تَأْوِيلُ ذَلِكَ كَانَ آدَمُ عَلَى الْحَقِّ إِمَامًا لِذُرِّيَّتِهِ، فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ فِي وَلَدِهِ. وَوَجَّهُوا مَعْنَى "الأُمَّةِ" إِلَى طَاعَةِ اللَّهِ، وَالدُّعَاءِ إِلَى تَوْحِيدِهِ وَاتِّبَاعِ أَمْرِهِ، مِنْ قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا} [سُورَةُ النَّحْلِ: 120]، يَعْنِي بِقَوْلِهِ" أُمَّةً "، إِمَامًا فِي الْخَيْرِ يُقْتَدَى بِهِ، وَيُتَّبَعُ عَلَيْهِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍٍ: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً}، قَالَ: آدَمُ. حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍٍ قَوْلُهُ: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً}، قَالَ: آدَمُ، قَالَ: كَانَ بَيْنَ آدَمَ وَنُوحٍ عَشَرَةُ أَنْبِيَاءَ، فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ، قَالَ مُجَاهِدٌ: آدَمُ أُمَّةً وَحْدَهُ، وَكَأَنَّ مَنْ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ، اسْتَجَازَ بِتَسْمِيَةِ الْوَاحِدِ بِاسْمِ الْجَمَاعَةِ لِاجْتِمَاعِ أَخْلَاقِ الْخَيْرِ الَّذِي يَكُونُ فِي الْجَمَاعَةِ الْمُفَرَّقَةِ فِيمَنْ سَمَّاهُ بِـ "الْأُمَّةِ"، كَمَا يُقَالُ: "فُلَانٌ أُمَّةٌ وَحْدَهُ"، يَقُومُ مَقَامَ الْأُمَّةِ. وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ سَمَّاهُ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ سَبَبٌ لِاجْتِمَاعِ الْأَشتَاتِ مِنَ النَّاسِ عَلَى مَا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ مِنْ أَخْلَاقِ الْخَيْرِ، فَلَمَّا كَانَ آدَمُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبَبًا لِاجْتِمَاعِ مَنِ اجْتَمَعَ عَلَى دِينِهِ مَنْ وَلَدِهِ إِلَى حَالِ اخْتِلَافِهِمْ سَمَّاهُ بِذَلِكَ"أُمَّةً". وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً عَلَى دِينٍ وَاحِدٍ يَوْمَ اسْتَخْرَجَ ذَرِّيَّةَ آدَمَ مِنْ صُلْبِهِ، فَعَرَضَهُمْ عَلَى آدَمَ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ قَوْلُهُ: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً}- وَعَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: كَانُوا أُمَّةً وَاحِدَةً حَيْثُ عُرِضُوا عَلَى آدَمَ، فَفَطَرَهُمْ يَوْمئِذٍ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَأَقَرُّوا لَهُ بِالْعُبُودِيَّةِ، وَكَانُوا أُمَّةً وَاحِدَةً مُسْلِمِينَ كُلُّهُمْ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ آدَمَ فَكَانَ أُبَيٌّ يَقْرَأُ: "كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ" إِلَى {فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ}. وَإِنَّ اللَّهَ إِنَّمَا بَعَثَ الرُّسُلَ وَأَنْـزَلَ الْكُتُبَ عِنْدَ الِاخْتِلَافِ. حَدَّثَنَا يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍفِي قَوْلِهِ: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً}، قَالَ: حِينَ أَخْرَجَهُمْ مِنْ ظَهْرِ آدَمَ لَمْ يَكُونُوا أُمَّةً وَاحِدَةً قَطُّ غَيْرَ ذَلِكَ الْيَوْمِ {فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ}، قَالَ: هَذَا حِينَ تَفَرَّقَتِ الْأُمَمُ. وَتَأْوِيلُ الْآيَةِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ نَظِيرُ تَأْوِيلِ قَوْلِ مَنْ قَالَ يَقُولُ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ النَّاسَ كَانُوا عَلَى دِينٍ وَاحِدٍ فِيمَا بَيْنَ آدَمَ وَنُوحٍ- وَقَدْ بَيَّنَا مَعْنَاهُ هُنَالِكَ; إِلَّا أَنَّ الْوَقْتَ الَّذِي كَانَ فِيهِ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً مُخَالِفٌ الْوَقْتَ الَّذِي وَقَّتَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَقَالَ آخَرُونَ بِخِلَافِ ذَلِكَ كُلِّهِ فِي ذَلِكَ، وَقَالُوا: إِنَّمَا مَعْنَى قَوْلِهِ: "كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً"، عَلَى دِينٍ وَاحِدٍ، فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً}، يَقُولُ: كَانَ دِينًا وَاحِدًا، فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى التَّأْوِيلَاتِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِالصَّوَابِ أَنْ يُقَالَ إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَخْبَرَ عِبَادَهُ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا أُمَّةً وَاحِدَةً عَلَى دِينٍ وَاحِدٍ وَمِلَّةٍ وَاحِدَةٍ. كَمَا:- حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطُ، عَنِ السُّدِّيِّ: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً}، يَقُولُ: دِينًا وَاحِدًا عَلَى دِينِ آدَمَ، فَاخْتَلَفُوا، فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ. وَكَانَ الدِّينُ الَّذِي كَانُوا عَلَيْهِ دِينَ الْحَقِّ، كَمَا قَالَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، كَمَا: حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطُ، عَنِ السُّدِّيِّ، قَالَ: هِيَ فِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ: "اخْتَلَفُوا عَنْهُ" عَنِ الْإِسْلَامِ. فَاخْتَلَفُوا فِي دِينِهِمْ، فَبَعَثَ اللَّهُ عِنْدَ اخْتِلَافِهِمْ فِي دِينِهِمُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ، " وَأَنْـزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ "، رَحْمَةً مِنْهُ جَلَّ ذِكْرُهُ بِخَلْقِهِ وَاعْتِذَارًا مِنْهُ إِلَيْهِمْ. وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْوَقْتُ الَّذِي كَانُوا فِيهِ أُمَّةً وَاحِدَةً مِنْ عَهْدِ آدَمَ إِلَى عَهْدِ نُوحٍ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، كَمَا رَوَى عِكْرِمَةُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَكَمَا قَالَهُ قَتَادَةُ. وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ كَانَ ذَلِكَ حِينَ عَرَضَ عَلَى آدَمَ خَلْقَهُ. وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ كَانَ ذَلِكَ فِي وَقْتٍ غَيْرِ ذَلِكَ- وَلَا دَلَالَةَ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَلَا خَبَرَ يَثْبُتُ بِهِ الْحُجَّةُ عَلَى أَيِّ هَذِهِ الْأَوْقَاتِ كَانَ ذَلِكَ. فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ نَقُولَ فِيهِ إِلَّا مَا قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا أُمَّةً وَاحِدَةً، فَبَعَثَ اللَّهُ فِيهِمْ لَمَّا اخْتَلَفُوا الْأَنْبِيَاءَ وَالرُّسُلَ. وَلَا يَضُرُّنَا الْجَهْلُ بِوَقْتِ ذَلِكَ، كَمَا لَا يَنْفَعُنَا الْعِلْمُ بِهِ، إِذَا لَمْ يَكُنِ الْعِلْمُ بِهِ لِلَّهِ طَاعَةً، غَيْرَ أَنَّهُ أَيُّ ذَلِكَ كَانَ، فَإِنَّ دَلِيلَ الْقُرْآنِ وَاضِحٌ عَلَى أَنَّ الَّذِينَ أَخْبَرَ اللَّه عَنْهُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا أُمَّةً وَاحِدَةً، إِنَّمَا كَانُوا أُمَّةً وَاحِدَةً عَلَى الْإِيمَانِ وَدِينِ الْحَقِّ دُونَ الْكُفْرِ بِاللَّهِ وَالشِّرْكِ بِهِ. وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ جَلَّ وَعَزَّ قَالَ فِي السُّورَةِ الَّتِي يَذْكُرُ فِيهَا" يُونُسَ ": {وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [يُونُسَ: 19]. فَتَوَعَّدَ جَلَّ ذِكْرُهُ عَلَى الِاخْتِلَافِ لَا عَلَى الِاجْتِمَاعِ، وَلَا عَلَى كَوْنِهِمْ أُمَّةً وَاحِدَةً، وَلَوْ كَانَ اجْتِمَاعُهُمْ قَبْلَ الِاخْتِلَافِ كَانَ عَلَى الْكُفْرِ ثُمَّ كَانَ الِاخْتِلَافُ بَعْدَ ذَلِكَ، لَمْ يَكُنْ إِلَّا بِانْتِقَالِ بَعْضِهِمْ إِلَى الْإِيمَانِ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ لَكَانَ الْوَعْدُ أَوْلَى بِحِكْمَتِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ فِي ذَلِكَ الْحَالِ مِنَ الْوَعِيدِ لِأَنَّهَا حَالُ إِنَابَةِ بَعْضِهِمْ إِلَى طَاعَتِهِ، وَمُحَالٌ أَنْ يَتَوَعَّدَ فِي حَالِ التَّوْبَةِ وَالْإِنَابَةِ، وَيَتْرُكَ ذَلِكَ فِي حَالِ اجْتِمَاعِ الْجَمِيعِ عَلَى الْكُفْرِ وَالشِّرْكِ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَمَّا قَوْلُهُ: {فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ}، فَإِنَّهُ يَعْنِي أَنَّهُ أَرْسَلَ رُسُلًا يُبَشِّرُونَ مَنْ أَطَاعَ اللَّهَ بِجَزِيلِ الثَّوَابِ، وَكَرِيمِ الْمَآبِ وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ: "وَمُنْذِرِينَ "، يُنْذِرُونَ مَنْ عَصَى اللَّهَ فَكَفَرَ بِهِ، بِشِدَّةِ الْعِقَابِ، وَسُوءِ الْحِسَابِ وَالْخُلُودِ فِي النَّارِ {وَأَنْـزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ}، يَعْنِي بِذَلِكَ: لِيَحْكُمَ الْكِتَابُ- وَهُوَ التَّوْرَاةُ- بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفَ الْمُخْتَلِفُونَ فِيهِ. فَأَضَافَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ "الحُكْمَ" إِلَى "الكِتَابِ"، وَأَنَّهُ الَّذِي يَحْكُمُ بَيْنَ النَّاسِ دُونَ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ، إِذْ كَانَ مَنْ حَكَمَ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ بِحُكْمٍ، إِنَّمَا يَحْكُمُ بِمَا دَلَّهُمْ عَلَيْهِ الْكِتَابُ الَّذِي أَنْـزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، فَكَانَ الْكِتَابُ بِدَلَالَتِهِ عَلَى مَا دَلَّ وَصْفُهُ عَلَى صِحَّتِهِ مِنَ الْحُكْمِ، حَاكِمًا بَيْنَ النَّاسِ، وَإِنْ كَانَ الَّذِي يَفْصِلُ الْقَضَاءَ بَيْنَهُمْ غَيْرُهُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ: {وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ}، وَمَا اخْتَلَفَ فِي الْكِتَابِ الَّذِي أَنْـزَلَهُ وَهُوَ التَّوْرَاةُ" إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ"، يَعْنِي، بِذَلِكَ الْيَهُودَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَهْمُ الَّذِينَ أُوتُوا التَّوْرَاةَ وَالْعِلْمَ بِهَا وَ "الهَاءُ" فِي قَوْلِهِ: "أُوتُوهُ" عَائِدَةٌ عَلَى "الكِتَابِ" الَّذِي أَنْـزَلَهُ اللَّهُ {مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ}، يَعْنِي بِذَلِكَ: مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمْ حُجَجُ اللَّهِ وَأَدِلَّتُهُ أَنَّ الْكَتَابَ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَفِي أَحْكَامِهِ عِنْدَ اللَّهِ، وَأَنَّهُ الْحَقُّ الَّذِي لَا يَسَعُهُمُ الِاخْتِلَافُ فِيهِ، وَلَا الْعَمَلُ بِخِلَافِ مَا فِيهِ. فَأَخْبَرَ عَزَّ ذِكْرُهُ عَنِ الْيَهُودِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُمْ خَالَفُوا الْكِتَابَ التَّوْرَاةَ، وَاخْتَلَفُوا فِيهِ عَلَى عِلْمٍ مِنْهُمْ مَا يَأْتُونَ مُتَعَمِّدِينَ الْخِلَافَ عَلَى اللَّهِ فِيمَا خَالَفُوهُ فِيهِ مِنْ أَمْرِهِ وَحُكْمِ كِتَابِهِ. ثُمَّ أَخْبَرَ جَلَّ ذِكْرُهُ أَنَّ تَعَمُّدَهُمُ الْخَطِيئَةَ الَّتِي أَتَوْهَا، وَرُكُوبَهُمُ الْمَعْصِيَةَ الَّتِي رَكِبُوهَا مِنْ خِلَافِهِمْ أَمْرَهُ، إِنَّمَا كَانَ مِنْهُمْ بَغْيًا بَيْنَهُمْ. وَ "البَغْيُ" مَصْدَرٌ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ: "بَغَى فُلَانٌ عَلَى فُلَانٍ بَغْيًا"، إِذَا طَغَى وَاعْتَدَى عَلَيْهِ فَجَاوَزَ حَدَّهُ، وَمِنْ ذَلِكَ قِيلَ لِلْجُرْحِ إِذَا أَمَدَّ، وَلِلْبَحْرِ إِذَا كَثُرَ مَاؤُهُ فَفَاضَ، وَلِلسَّحَابِ إِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ فَأَخْصَبَتْ: "بَغَى" كُلُّ ذَلِكَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَهِيَ زِيَادَتُهُ وَتَجَاوُزُ حَدِّهِ. فَمَعْنَى قَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ}، مِنْ ذَلِكَ. يَقُولُ: لَمْ يَكُنِ اخْتِلَافُ هَؤُلَاءِ الْمُخْتَلِفِينَ مِنَ الْيَهُودِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي كِتَابِي الَّذِي أَنْـزَلْتُهُ مَعَ نَبِيِّي عَنْ جَهْلٍ مِنْهُمْ بِهِ، بَلْ كَانَ اخْتِلَافُهُمْ فِيهِ، وَخِلَافُ حُكْمِهِ، مِنْ بَعْدِ مَا ثَبَتَتْ حُجَّتُهُ عَلَيْهِمْ، بَغْيًا بَيْنَهُمْ، طَلَبَ الرِّيَاسَةِ مِنْ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ، وَاسْتِذْلَالًا مَنْ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ. كَمَا: حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارِ بْنِ الْحَسَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ قَالَ: ثُمَّ رَجَعَ إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي قَوْلِهِ: {وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ} يَقُولُ: إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْعِلْمَ {مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ}، يَقُولُ: بَغْيًا عَلَى الدُّنْيَا وَطَلَبَ مُلْكِهَا وَزُخْرُفِهَا وَزِينَتِهَا، أَيُّهُمْ يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ وَالْمَهَابَةُ فِي النَّاسِ، فَبَغَى بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَضَرَبَ بَعْضُهُمْ رِقَابَ بَعْضٍ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: ثُمَّاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ فِي"مِنْ" الَّتِي فِي قَوْلِهِ: {مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ} مَا حُكْمُهَا وَمَعْنَاهَا؟وَمَا الْمَعْنَى الْمُنْتَسِقُ فِي قَوْلِهِ: {وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ}؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: "مِنْ"، ذَلِكَ لِلَّذِينِ أُوتُوا الْكِتَابَ، وَمَا بَعْدَهُ صِلَةٌ لَهُ. غَيْرَ أَنَّهُ زَعَمَ أَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ: وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ، بَغْيًا بَيْنَهُمْ، مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ. وَقَدْ أَنْكَرَ ذَلِكَ بَعْضُهُمْ فَقَالَ: لَا مَعْنَى لِمَا قَالَ هَذَا الْقَائِلُ، وَلَا لِتَقْدِيمِ "البَغْيِ" قَبْلَ"مِنْ"، لِأَنَّ"مِنْ" إِذَا كَانَ الْجَالِبُ لَهَا "البَغْيُ"، فَخَطَأٌ أَنْ تَتَقَدَّمَهُ لِأَنَّ "البَغْيَ" مَصْدَرٌ، وَلَا تَتَقَدَّمُ صِلَةُ الْمَصْدَرِ عَلَيْهِ. وَزَعَمَ الْمُنْكِرُ ذَلِكَ أَنَّ "الذِينَ" مُسْتَثْنًى، وَأَنَّ"مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ" مُسْتَثْنًى بِاسْتِثْنَاءٍ آخَرَ، وَأَنَّ تَأْوِيلَ الْكَلَامِ: وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ، مَا اخْتَلَفُوا فِيهِ إِلَّا بَغْيًا مَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَكَأَنَّهُ كَرَّرَ الْكَلَامَ تَوْكِيدًا. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَهَذَا الْقَوْلُ الثَّانِي أَشْبَهُ بِتَأْوِيلِ الْآيَةِ، لِأَنَّ الْقَوْمَ لَمْ يَخْتَلِفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ قِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ وَمَجِيءِ الْبَيِّنَاتِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَكَذَلِكَ لَمْ يَخْتَلِفُوا إِلَّا بَغْيًا، فَذَلِكَ أَشْبَهُ بِتَأْوِيلِ الْآيَةِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ: "فَهَدَى اللَّهُ، فَوَفَّقَ [اللَّهُ ] الَّذِينَ آمَنُوا وَهُمْ أَهْلُ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُصَدِّقِينَ بِهِ وَبِمَا جَاءَ بِهِ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكُتَّابَ فِيهِ. وَكَانَ اخْتِلَافهمُ الَّذِي خَذَلَهُمُ اللَّهُ فِيهِ، وَهَدَى لَهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَفَّقَهُمْ لِإِصَابَتِهِ: "الجُمُعَةُ"، ضَلُّوا عَنْهَا وَقَدْ فُرِضَتْ عَلَيْهِمْ كَالَّذِي فُرِضَ عَلَيْنَا، فَجَعَلُوهَا "السَّبْتَ"، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (نَحْنُ الْآخِرُونَ السَّابِقُون).، بَيْدَ أَنَّهُمْ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِنَا، وَأُوتِينَاهُ مِنْ بَعْدِهِمْ، وَهَذَا الْيَوْمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ، فَهَدَانَا اللَّهُ لَهُ فَلِلْيَهُودِ غَدًا وَلِلنَّصَارَى بَعْدَ غَدٍ". حَدَّثَنَا بِذَلِكَ مُحَمَّدُ بْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ عِيَاضِ بْنِ دِينَارٍ اللَّيْثِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَذَكَرَ الْحَدِيثَ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُعَمِّرٌ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: {فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ} قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (نَحْنُ الْآخِرُونَ الْأَوَّلُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، نَحْنُ أَوَّلُ النَّاسِ دُخُولًا الْجَنَّةَ بَيْدَ أَنَّهُمْ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِنَا وَأُوتِينَاهُ مِنْ بَعْدِهِمْ، فَهَدَانَا اللَّهُ لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ فَهَذَا الْيَوْمُ الَّذِي هَدَانَا اللَّهُ لَهُ وَالنَّاسُ لَنَا فِيهِ تَبَعٌ، غَدًا الْيَهُودُ، وَبَعْدَ غَدٍ لِلنَّصَارَى). وَكَانَ مِمَّا اخْتَلَفُوا فِيهِ أَيْضًا مَا قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، وَهُوَ مَا:- حَدَّثَنِي بِهِ يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍفِي قَوْلِهِ: {فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا} لِلْإِسْلَامِ، وَاخْتَلَفُوا فِي الصَّلَاةِ، الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى فَمِنْهُمْ مَنْ يُصَلِّي إِلَى الْمَشْرِقِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُصَلِّي إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَهَدَانَا لِلْقِبْلَةِ. وَاخْتَلَفُوا فِي الصِّيَامِ، الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى فَمِنْهُمْ مَنْ يَصُومُ بَعْضَ يَوْمٍ، وَبَعْضُهُمْ بَعْضَ لَيْلَةٍ، وَهَدَانَا اللَّهُ لَهُ.وَاخْتَلَفُوا فِي يَوْمِ الْجُمْعَةِ، الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى فَأَخَذَتِ الْيَهُودُ السَّبْتَ وَأَخَذَتِ النَّصَارَى الْأَحَدَ، فَهَدَانَا اللَّهُ لَهُ.وَاخْتَلَفُوا فِي إِبْرَاهِيمَ، الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى فَقَالَتِ الْيَهُودُ كَانَ يَهُودِيًّا، وَقَالَتِ النَّصَارَى كَانَ نَصْرَانِيًّا! فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ، وَجَعَلَهُ حَنِيفًا مُسْلِمًا، وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ لِلَّذِينِ يَدَّعُونَهُ مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ.وَاخْتَلَفُوا فِي عِيسَى، الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى فَجَعَلَتْهُ الْيَهُودُ لِفِرْيَةٍ، وَجَعَلَتْهُ النَّصَارَى رَبًّا، فَهَدَانَا اللَّهُ لِلْحَقِّ فِيهِ. فَهَذَا الَّذِي قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: فَكَانَتْ هِدَايَةُ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِمُحَمَّدٍ، وَبِمَا جَاءَ بِهِ لِمَا اخْتَلَفَ-هَؤُلَاءِ الْأَحْزَابُ مِنْ بَنَى إِسْرَائِيل الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ- فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ أَنْ وَفَّقَهُمْ لِإِصَابَةِ مَا كَانَ عَلَيْهِ مَنِ الْحَقِّ مَنْ كَانَ قَبْلَ الْمُخْتَلِفِينَ الَّذِينَ وَصَفَ اللَّهُ صِفَتَهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، إِذْ كَانُوا أُمَّةً وَاحِدَةً، وَذَلِكَ هُوَ دِينُ إِبْرَاهِيمَ الْحَنِيفِ الْمُسْلِمِ خَلِيلِ الرَّحْمَنِ، فَصَارُوا بِذَلِكَ أُمَّةً وَسَطًا، كَمَا وَصَفَهُمْ بِهِ رَبُّهُمْ لِيَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ. كَمَا: حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارِ بْنِ الْحَسَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ عَنِ الرَّبِيعِ: {فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ}، فَهَدَاهُمُ اللَّهُ عِنْدَ الِاخْتِلَافِ، أَنَّهُمْ أَقَامُوا عَلَى مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ قَبْلَ الِاخْتِلَافِ: أَقَامُوا عَلَى الْإِخْلَاصِ لِلَّهِ وَحْدَهُ، وَعِبَادَتِهِ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، فَأَقَامُوا عَلَى الْأَمْرِ الْأَوَّلِ الَّذِي كَانَ قَبْلَ الِاخْتِلَافِ، وَاعْتَزَلُوا الِاخْتِلَافَ، فَكَانُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، كَانُوا شُهَدَاءَ عَلَى قَوْمِ نُوحٍ، وَقَوْمِ هُودٍ، وَقَوْمِ صَالِحٍ، وَقَوْمِ شُعَيْبٍ، وَآلِ فِرْعَوْنَ، أَنَّ رُسُلَهُمْ قَدْ بَلَّغُوهُمْ، وَأَنَّهُمْ كَذَّبُوا رُسُلَهُمْ. وَهِيَ فِي قِرَاءَةِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: {وَلِيَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} يَوْمَ الْقِيَامَةِ {وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}. فَكَانَ أَبُو الْعَالِيَةِ يَقُولُ: فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْمَخْرَجُ مِنَ الشُّبَهَاتِ وَالضَّلَالَاتِ وَالْفِتَنِ. حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطُ، عَنِ السُّدِّيِّ: {فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ}، يَقُولُ: اخْتَلَفَ الْكُفَّارُ فِيهِ، فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِلْحَقِّ مِنْ ذَلِكَ; وَهِيَ فِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ: "فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا عَنْهُ"، عَنِ الْإِسْلَامِ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَمَّا قَوْلُهُ: "بِإِذْنِهِ"، فَإِنَّهُ يَعْنِي جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِعِلْمِهِ بِمَا هَدَاهُمْ لَهُ، وَقَدْ بَيَّنَّا مَعْنَى "الإِذْنِ" إِذْ كَانَ بِمَعْنَى الْعِلْمِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ هَهُنَا. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}، فَإِنَّهُ يَعْنِي بِهِ: وَاللَّهُ يُسَدِّدُ مَنْ يَشَاءُ مِنْ خَلْقِهِ وَيُرْشِدُهُ إِلَى الطَّرِيقِ الْقَوِيمِ عَلَى الْحَقِّ الَّذِي لَا اعْوِجَاجَ فِيهِ، كَمَا هَدَى الَّذِينَ آمَنُوا بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ فِيهِ بَغْيًا بَيْنَهُمْ، فَسَدَّدَهُمْ لِإِصَابَةِ الْحَقِّ وَالصَّوَابِ فِيهِ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ الْبَيَانُ الْوَاضِحُ عَلَى صِحَّةِ مَا قَالَهُ أَهْلُ الْحَقِّ: مِنْ أَنَّكُلَّ نِعْمَةٍ عَلَى الْعِبَادِ فِي دِينِهِمْ أَوْ دُنْيَاهُمْ، فَمِنَ اللَّهِ جَلَّ وَعَزَّ. فَإِنْ قَالَ لَنَا قَائِلٌ: وَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ: {فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ}؟ أَهْدَاهُمْ لِلْحَقِّ، أَمْ هَدَاهُمْ لِلِاخْتِلَافِ؟ فَإِنْ كَانَ هَدَاهُمْ لِلِاخْتِلَافِ فَإِنَّمَا أَضَلَّهُمْ! وَإِنْ كَانَ هُدَاهُمْ لِلْحَقِّ، فَكَيْفَ قِيلَ {فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ}؟ قِيلَ: إِنَّ ذَلِكَ عَلَى غَيْرِ الْوَجْهِ الَّذِي ذَهَبْتَ إِلَيْهِ، وَإِنَّمَا مَعْنَى ذَلِكَ: فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِلْحَقِّ فِيمَا اخْتَلَفَ فِيهِ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ الَّذِينَ أُوتُوهُ، فَكَفَرَ بِتَبْدِيلِهِ بَعْضُهُمْ، وَثَبَتَ عَلَى الْحَقِّ وَالصَّوَابِ فِيهِ بَعْضُهُمْ- وَهُمْ أَهْلُ التَّوْرَاةِ الَّذِينَ بَدَّلُوهَا- فَهَدَى اللَّهُ مِمَّا لِلْحَقِّ بَدَّلُوا وَحَرَّفُوا، الَّذِينَ آمَنُوا مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: فَإِنْ أَشْكَلَ مَا قُلْنَا عَلَى ذِي غَفْلَةٍ، فَقَالَ وَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ كَمَا قُلْتَ، وَ"مِنْ" إِنَّمَا هِيَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فِي "الحَقِّ" وَ "اللَّامِ" فِي قَوْلِهِ: {لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ}، وَأَنْتَ تُحَوِّلُ "اللَّامَ" فِي "الحَقِّ"، وَ"مِنْ" فِي "الاخْتِلَافِ"، فِي التَّأْوِيلِ الَّذِي تَتَأَوَّلُهُ فَتَجْعَلُهُ مَقْلُوبًا؟ قِيلَ: ذَلِكَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ مَوْجُودٌ مُسْتَفِيضٌ، وَاللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى إِنَّمَا خَاطَبَهُمْ بِمَنْطِقِهِمْ، فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ الشَّاعِرِ: كَـانَتْ فَرِيضَـةُ مَـا تَقُـولُ كَمَـا *** كَـانَ الزِّنَـاءُ فَريضَـةَ الرَّجْـمِ وَإِنَّمَا الرَّجْمُ فَرِيضَةُ الزِّنَا. وَكَمَا قَالَ الْآخَرُ: إِنَّ سِـرَاجًا لَكَـرِيمٌ مَفْخَـرُهْ *** تَحْـلَى بـه العَيْـنُ إِذَا مَـا تَجْـهَرُهْ وَإِنَّمَا سِرَاجٌ الَّذِي يُحَلَّى بِالْعَيْنِ، لَا الْعَيْنُ بِسِرَاجٍ. وَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ {فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ}، أَنَّ أَهْلَ الْكُتُبِ الْأُوَّلِ اخْتَلَفُوا، فَكَفَرَ بَعْضُهُمْ بِكِتَابِ بَعْضٍ، وَهِيَ كُلُّهَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، فَهَدَى اللَّهُ أَهْلَ الْإِيمَانِ بِمُحَمَّدٍ لِلتَّصْدِيقِ بِجَمِيعِهَا. وَذَلِكَ قَوْلٌ، غَيْرَ أَنَّ الْأَوَّلَ أَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ. لِأَنَّ اللَّهَ إِنَّمَا أَخْبَرَ بِاخْتِلَافِهِمْ فِي كِتَابٍ وَاحِدٍ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} 214) قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَمَّا قَوْلُهُ: "أَمْ حَسِبْتُمْ "، كَأَنَّهُ اسْتَفْهَمَ بِـ "أَمْ" فِي ابْتِدَاءٍ لَمْ يَتَقَدَّمْهُ حَرْفُ اسْتِفْهَامٍ، لِسُبُوقِ كَلَامٍ هُوَ بِهِ مُتَّصِلٌ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ قَبْلَهُ كَلَامٌ يَكُونُ بِهِ مُتَّصِلًا وَكَانَ ابْتِدَاءً لَمْ يَكُنْ إِلَّا بِحَرْفٍ مِنْ حُرُوفِ الِاسْتِفْهَامِ; لِأَنَّ قَائِلًا لَوْ كَانَ قَالَ مُبْتَدِئًا كَلَامًا لِآخَرَ: "أَمْ عِنْدَكَ أَخُوكَ"؟ لَكَانَ قَائِلًا مَا لَا مَعْنًى لَهُ. وَلَكِنْ لَوْ قَالَ: "أَنْتَ رَجُلٌ مُدِلٌّ بِقُوَّتِكَ أَمْ عِنْدَكَ أَخُوكَ يَنْصُرُكَ؟" كَانَ مُصِيبًا. وَقَدْ بَيَّنَّا بَعْضَ هَذَا الْمَعْنَى فِيمَا مَضَى مِنْ كِتَابِنَا هَذَا بِمَا فِيهِ الْكِفَايَةُ عَنْ إِعَادَتِهِ. فَمَعْنَى الْكَلَامِ: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنَّكُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِتَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ، وَلَمْ يُصِبْكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ مَنْ قَبْلَكُمْ مِنْ أَتْبَاعِ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ مِنَ الشَّدَائِدِ وَالْمِحَنِ وَالِاخْتِبَارِ، فَتُبْتَلَوْا بِمَا ابْتُلُوا وَاخْتُبِرُوا بِهِ مِنَ" الْبَأْسَاءِ "- وَهُوَ شِدَّةُ الْحَاجَةِ وَالْفَاقَةِ "وَالضَّرَّاء"-وَهِيَ الْعِلَلُ وَالْأَوْصَابُ- وَلَمْ تُزَلْزَلُوا زِلْزَالَهُمْ- يَعْنِي: وَلَمْ يُصِبْهُمْ مِنْ أَعْدَائِهِمْ مِنَ الْخَوْفِ وَالرُّعْبِ شِدَّةٌ وَجَهْدٌ حَتَّى يَسْتَبْطِئَ الْقَوْمُ نَصْرَ اللَّهِ إِيَّاهُمْ، فَيَقُولُونَ: مَتَى اللَّهُ نَاصِرُنَا؟ ثُمَّ أَخْبَرَهُمُ اللَّهُ أَنَّ نَصْرَهُ مِنْهُمْ قَرِيبٌ، وَأَنَّهُ مُعَلِّيهِمْ عَلَى عَدُوِّهِمْ، وَمُظْهِرُهُمْ عَلَيْهِ، فَنَجَّزَ لَهُمْ مَا وَعَدَهُمْ، وَأَعْلَى كَلِمَتَهُمْ، وَأَطْفَأَ نَارَ حَرْبِ الَّذِينَ كَفَرُوا. وَهَذِهِ الْآيَةُ- فِيمَا يَزْعُمُ أَهْلُ التَّأْوِيلِ- نَـزَلَتْ يَوْمَ الْخَنْدَقِ، حِينَ لَقِيَ الْمُؤْمِنُونَ مَا لَقُوا مِنْ شِدَّةِ الْجَهْدِ، مِنْ خَوْفِ الْأَحْزَابِ، وَشِدَّةِ أَذَى الْبَرْدِ، وَضِيقِ الْعَيْشِ الَّذِي كَانُوا فِيهِ يَوْمَئِذٍ، يَقُولُ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ لِلْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا} إِلَى قَوْلِهِ: {وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا} [الْأَحْزَابِ: 11]
ذِكْرُ مَنْ قَالَ نَـزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ يَوْمَ الْأَحْزَابِ: حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرٌو، قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطُ، عَنِ السُّدِّيِّ: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا}، قَالَ: نَـزَلَ هَذَا يَوْمَ الْأَحْزَابِ حِينَ قَالَ قَائِلُهُمْ: {مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا} [الْأَحْزَابِ: 12] حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُعَمِّرٌ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: {وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا}، قَالَ: نَـزَلَتْ فِي يَوْمِ الْأَحْزَابِ، أَصَابَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ بَلَاءٌ وَحَصْرٌ، فَكَانُوا كَمَا قَالَ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ: {وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ}. وَأَمَّا قَوْلُهُ: "وَلَمَّا يَأْتِكُمْ"، فَإِنَّ عَامَّةَ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ يَتَأَوَّلُونَهُ بِمَعْنَى: وَلَمْ يَأْتِكُمْ، وَيَزْعُمُونَ أَنَّ"مَا" صِلَةٌ وَحَشْوٌ، وَقَدْ بَيَّنْتُ الْقَوْلَ فِي"مَا" الَّتِي يُسَمِّيهَا أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ"صِلَةً"، مَا حُكْمُهَا؟ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ. وَأَمَّا مَعْنَى قَوْلِهِ: "مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ"، فَإِنَّهُ يَعْنِي: شَبَهُ الَّذِينَ خَلَوْا فَمَضَوْا قَبْلَكُمْ. وَقَدْ دَلَّلْتُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ عَلَى أَنَّ "المَثَلَ"، الشَّبَهُ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ قَوْلُهُ: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا}. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ قَوْلُهُ: {حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا}، قَالَ: هُوَ خَيْرُهُمْ وَأَعْلَمُهُمْ بِاللَّهِ. وَفِي قَوْلِهِ: {حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ}، وَجْهَانِ مِنَ الْقِرَاءَةِ: الرَّفْعُ، وَالنَّصْبُ. وَمَنْ رَفَعَ فَإِنَّهُ يَقُولُ: لَمَّا كَانَ يَحْسُنُ فِي مَوْضِعِهِ"فَعَلَ" أَبْطَلَ عَمَلَ"حَتَّى" فِيهَا، لِأَنَّ"حَتَّى" غَيْرُ عَامِلَةٍ فِي"فَعَلَ"، وَإِنَّمَا تَعْمَلُ فِي"يَفْعَلُ"، وَإِذَا تَقَدَّمَهَا"فَعَلَ"، وَكَانَ الَّذِي بَعْدَهَا"يَفْعَلُ"، وَهُوَ مِمَّا قَدْ فُعِلَ وَفُرِغَ مِنْهُ، وَكَانَ مَا قَبْلَهَا مِنَ الْفِعْلِ غَيْرَ مُتَطَاوِلٍ، فَالْفَصِيحُ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ حِينَئِذٍ الرَّفْعُ فِي"يَفْعَلُ" وَإِبْطَالُ عَمَلِ "حَتَّى" عَنْهُ، وَذَلِكَ نَحْوَ قَوْلِ الْقَائِلِ: "قُمْتُ إِلَى فُلَانٍ حَتَّى أَضْرِبُهُ"، وَالرَّفْعُ هُوَ الْكَلَامُ الصَّحِيحُ فِي"أَضْرِبُهُ"، إِذَا أَرَادَ: قُمْتُ إِلَيْهِ حَتَّى ضَرَبْتُهُ، إِذَا كَانَ الضَّرْبُ قَدْ كَانَ وَفُرِغَ مِنْهُ، وَكَانَ الْقِيَامُ غَيْرَ مُتَطَاوِلِ الْمُدَّةِ. فَأَمَّا إِذَا كَانَ مَا قَبْلَ "حَتَّى" مِنَ الْفِعْلِ عَلَى لَفْظِ "فِعْلٍ" مُتَطَاوِلِ الْمُدَّةِ، وَمَا بَعْدَهَا مِنَ الْفِعْلِ عَلَى لَفْظٍ غَيْرِ مُنْقَضٍ، فَالصَّحِيحُ مِنَ الْكَلَامِ نَصْبُ"يَفْعَلُ"، وَإِعْمَالُ"حَتَّى"، وَذَلِكَ نَحْوَ قَوْلِ الْقَائِلِ: "مَا زَالَ فُلَانٌ يَطْلُبُكَ حَتَّى يُكَلِّمَكَ وَجَعَلَ يَنْظُرُ إِلَيْكَ حَتَّى يُثَبِّتَكَ"، فَالصَّحِيحُ مِنَ الْكَلَامِ- الَّذِي لَا يَصِحُّ غَيْرُهُ- النَّصْبُ بِـ "حَتَّى"، كَمَا قَالَ الشَّاعِر: مَطَـوْتُ بِهِـمْ حَـتَّى تَكِـلَّ مَطِيُّهُـمْ *** وَحَـتَّى الجِيَـادُ مَـا يُقَـدْنَ بِأَرْسَـانِ فَنَصَبَ "تَكِلُّ"، وَالْفِعْلُ الَّذِي بَعْدَ"حَتَّى" مَاضٍ، لِأَنَّ الَّذِي قَبْلَهَا مِنْ "المَطْوِ" مُتَطَاوِلٌ. وَالصَّحِيحُ مِنَ الْقِرَاءَةِ- إِذْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ-: {وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ}، نَصْبُ "يَقُولَ"، إِذْ كَانَتِ "الزَّلْزَلَةُ" فِعْلًا مُتَطَاوِلًا مِثْلَ "المَطْوِ بِالْإِبِلِ". وَإِنَّمَا "الزَّلْزَلَةُ" فِي هَذَا الْمَوْضِعِ: الْخَوْفُ مِنَ الْعَدُوِّ، لَا"زَلْزَلَةَ الْأَرْضِ"، فَلِذَلِكَ كَانَتْ مُتَطَاوِلَةً وَكَانَ النَّصْبُ فِي"يَقُولَ" وَإِنْ كَانَ بِمَعْنَى"فَعَلَ" أَفْصَحَ وَأَصَحَّ مِنَ الرَّفْعِ فِيهِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: يَسْأَلُكَ أَصْحَابُكَ يَا مُحَمَّدُ، أَيُّ شَيْءٍ يُنْفِقُونَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَيَتَصَدَّقُونَ بِهِ؟، وَعَلَى مَنْ يُنْفِقُونَهُ فِيمَا يُنْفِقُونَهُ وَيَتَصَدَّقُونَ بِهِ؟ فَقُلْ لَهُمْ: مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ أَمْوَالِكُمْ وَتَصَدَّقْتُمْ بِهِ، فَأَنْفِقُوهُ وَتَصَدَّقُوا بِهِ وَاجْعَلُوهُ لِآبَائِكُمْ وَأُمَّهَاتِكُمْ وَأَقْرَبِيكُمْ، وَلِلْيَتَامَى مِنْكُمْ، وَالْمَسَاكِينِ، وَابْنِ السَّبِيلِ، فَإِنَّكُمْ مَا تَأْتُوا مِنْ خَيْرٍ وَتَصْنَعُوهُ إِلَيْهِمْ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ، وَهُوَ مُحْصِيهِ لَكُمْ حَتَّى يَكُمْ أُجُورَكُمْ عَلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَيُثِيبَكُمْ عَلَى مَا أَطَعْتُمُوهُ بِإِحْسَانِكُمْ عَلَيْهِ. وَ "الخَيْرُ" الَّذِي قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ فِي قَوْلِهِ: {قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ}، هُوَ الْمَالُ الَّذِي سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابُهُ مِنَ النَّفَقَةِ مِنْهُ، فَأَجَابَهُمُ اللَّهُ عَنْهُ بِمَا أَجَابَهُمْ بِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَفِي قَوْلِهِ: "مَاذَا"، وَجْهَانِ مِنَ الْإِعْرَابِ. أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ"مَاذَا" بِمَعْنَى: أَيُّ شَيْءٍ؟ فَيَكُونُ نَصْبًا بِقَوْلِهِ: "يُنْفِقُونَ". فَيَكُونُ مَعْنَى الْكَلَامِ حِينَئِذٍ: يَسْأَلُونَكَ أَيَّ شَيْءٍ يُنْفِقُونَ؟، وَلَا يُنْصَبُ بِـ "يَسْأَلُونَك". وَالْآخَرُ مِنْهُمَا الرَّفْعُ. وَلِلرَّفْعِ فِي"ذَلِكَ" وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ"ذَا" الَّذِي مَعَ"مَا" بِمَعْنَى "الذِي"، فَيُرْفَعُ"مَا" بِـ "ذَا" وَ"ذَا" لِـ "مَا"، وَ"يُنْفِقُونَ" مِنْ صِلَةِ"ذَا"، فَإِنَّ الْعَرَبَ قَدْ تَصِلُ"ذَا" و"َهَذَا"، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: عَـدَسْ! مَـا لِعَبَّـادٍ عَلَيْـكِ إمَـارَةٌ *** أَمِنْـتِ وَهَـذَا تَحْـمِلِينَ طَلِيـقُ! فَـ "تَحْمِلِينَ" مِنْ صِلَةِ"هَذَا". فَيَكُونُ تَأْوِيلُ الْكَلَامِ حِينَئِذٍ: يَسْأَلُونَكَ مَا الَّذِي يُنْفِقُونَ؟ وَالْآخَرُ مِنْ وَجْهَيِ الرَّفْعِ أَنْ تَكُونَ" مَاذَا "بِمَعْنَى أَيُّ شَيْءٍ، فَيُرْفَعُ" مَاذَا "، وَإِنْ كَانَ قَوْلُهُ: "يُنْفِقُون" وَاقِعًا عَلَيْهِ، إِذْ كَانَ الْعَامِلُ فِيهِ، وَهُوَ" يُنْفِقُونَ "، لَا يَصْلُحُ تَقْدِيمُهُ قَبْلَهُ، وَذَلِكَ أَنَّالِاسْتِفْهَامَ لَا يَجُوزُ تَقْدِيمُ الْفِعْلِ فِيهِ قَبْلَ حَرْفِ الِاسْتِفْهَامِ، كَمَا قَالَ الشَّاعِر: أَلَا تَسْـأَلَانِ المَـرْءَ مَـاذَا يُحَـاولُ *** أَنَحْـبٌ فَيُقْضَـى أَمْ ضـَلَالٌ وَبَـاطِلُ وَكَمَا قَالَ الْآخَر: وَقَـالُوا تَعَرَّفْهـَا المَنَـازِلَ مِـنْ مِنًى *** وَمَـا كُـلُّ مَـنْ يَغْشَى مِنًى أَنَا عَارِفُ فَرَفَعَ "كُلُّ" وَلَمْ يَنْصِبْهُ"بِعَارِفٍ"، إِذْ كَانَ مَعْنَى قَوْلِهِ: "وَمَا كُلٌّ مَنْ يَغْشَى مِنًى أَنَا عَارِفٌ" جُحُودُ مَعْرِفَةِ مَنْ يَغْشَى مِنًى فَصَارَ فِي مَعْنَى مَا أَحَدٌ. وَهَذِهِ الْآيَةُ [نَـزَلَتْ]- فِيمَا ذُكِرَ- قَبْلَ أَنْ يَفْرِضَ اللَّهُ زَكَاةَ الْأَمْوَالِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطُ، عَنِ السُّدِّيِّ: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ}، قَالَ: يَوْمَ نَـزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ لَمْ تَكُنْ زَكَاةٌ، وَإِنَّمَا هِيَ النَّفَقَةُ يُنْفِقُهَا الرَّجُلُ عَلَى أَهْلِهِ، وَالصَّدَقَةُ يَتَصَدَّقُ بِهَا فَنَسَخَتْهَا الزَّكَاةُ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، قَالَ: قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: سَأَلَ الْمُؤْمِنُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيْنَ يَضَعُونَ أَمْوَالَهُمْ؟ فَنَـزَلَتْ: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ}، فَذَلِكَ النَّفَقَةُ فِي التَّطَوُّعِ، وَالزَّكَاةُ سِوَى ذَلِكَ كُلِّهِ قَالَ: وَقَالَ مُجَاهِدٌ: سَأَلُوا فَأَفْتَاهُمْ فِي ذَلِكَ: {مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} وَمَا ذَكَرَ مَعَهُمَا. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي عِيسَى، قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ أَبِي نَجِيحٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ}، قَالَ: سَأَلُوهُ فَأَفْتَاهُمْ فِي ذَلِكَ: {فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} وَمَا ذَكَرَ مَعَهُمَا. حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ وَسَأَلْتُهُ عَنْ قَوْلِهِ: {قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} قَالَ: هَذَا مِنَ النَّوَافِلِ، قَالَ: يَقُولُ: هُمْ أَحَقُّ بِفَضْلِكَ مِنْ غَيْرِهِمْ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ السُّدِّيُّ: مِنْ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَوْمَ نَـزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ زَكَاةٌ، وَإِنَّمَا كَانَتْ نَفَقَةً يُنْفِقُهَا الرَّجُلُ عَلَى أَهْلِهِ، وَصَدَقَةً يَتَصَدَّقُ بِهَا، ثُمَّ نَسَخَتْهَا الزَّكَاةُ قَوْلٌ مُمْكِنٌ أَنْ يَكُونَ كَمَا قَالَ، وَمُمْكِنٌ غَيْرُهُ. وَلَا دَلَالَةَ فِي الْآيَةِ عَلَى صِحَّةِ مَا قَالَ. لِأَنَّهُ مُمْكِنٌ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: {قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} الْآيَةَ، حَثًّا مِنَ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ عَلَى الْإِنْفَاقِ عَلَى مَنْ كَانَتْ نَفَقَتُهُ غَيْرَ وَاجِبَةٍ مِنَ الْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ وَالْأَقْرِبَاءِ، وَمَنْ سُمِّيَ مَعَهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَتَعْرِيفًا مِنَ اللَّهِ عِبَادَهُمَوَاضِعَ الْفَضْلِ الَّتِي تُصْرَفُ فِيهَا النَّفَقَاتُ، كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ} [سُورَةُ الْبَقَرَةِ: 177]. وَهَذَا الْقَوْلُ الَّذِي قُلْنَاهُ فِي قَوْلِ ابْنِ جُرَيْجٍ الَّذِي حَكَيْنَاهُ. وَقَدّ بَيَّنَّا مَعْنَى الْمَسْكَنَةِ، وَمَعْنَى ابْنِ السَّبِيلِ فِيمَا مَضَى، فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ عَزَّ ذِكْرُهُ {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ}، فُرِضَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ، يَعْنِي قِتَالَ الْمُشْرِكِينَ" وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ". وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي الَّذِينَ عُنُوا بِفَرْضِ الْقِتَالِ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: عُنِيَ بِذَلِكَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّةً دُونَ غَيْرِهِمْ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: سَأَلْتُ عَطَاءً قُلْتُ لَهُ: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ}، أَوَاجِبٌ الْغَزْوُ عَلَى النَّاسِ مِنْ أَجْلِهَا؟ قَالَ: لَا! كُتِبَ عَلَى أُولَئِكَ حِينَئِذٍ. حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ، عَنْ حُسَيْنِ بْنِ قَيْسٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ}، قَالَ نَسَخَتْهَا {قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [سُورَةُ الْبَقَرَةِ: 285] قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَهَذَا قَوْلٌ لَا مَعْنًى لَهُ، لِأَنَّنَسْخَ الْأَحْكَامِ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ جَلَّ وَعَزَّ، لَا مِنْ قِبَلِ الْعِبَادِ، وَقَوْلُهُ: {قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا}، خَبَرٌ مِنَ اللَّهِ عَنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ وَأَنَّهُمْ قَالُوهُ لَا نَسْخٌ مِنْهُ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الْفَزَارِيُّ، قَالَ: سَأَلْتُ الْأَوْزَاعِيَّ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ}، أَوَاجِبٌ الْغَزْوُ عَلَى النَّاسِ كُلِّهِمْ؟ قَالَ: لَا أَعْلَمُهُ، وَلَكِنْ لَا يَنْبَغِي لِلْأَئِمَّةِ وَالْعَامَّةِ تَرْكُهُ، فَأَمَّا الرَّجُلُ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ فَلَا. وَقَالَ آخَرُونَ: هُوَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ حَتَّى يَقُومَ بِهِ مَنْ فِي قِيَامِهِ الْكِفَايَةُ، فَيَسْقُطُ فَرْضُ ذَلِكَ حِينَئِذٍ عَنْ بَاقِي الْمُسْلِمِينَ، كَالصَّلَاةِ عَلَى الْجَنَائِزِ وَغَسْلِهِمُ الْمَوْتَى وَدَفْنِهِمْ، وَعَلَى هَذَا عَامَّةُ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَذَلِكَ هُوَ الصَّوَابُ عِنْدَنَا لِإِجْمَاعِ الْحُجَّةِ عَلَى ذَلِكَ، وَلِقَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [سُورَةُ النِّسَاءِ: 95]، فَأَخْبَرَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَنَّ الْفَضْلَ لِلْمُجَاهِدِينَ، وَأَنَّ لَهُمْ وَلِلْقَاعِدِينَ الْحُسْنَى، وَلَوْ كَانَ الْقَاعِدُونَ مُضَيِّعِينَ فَرْضًا لَكَانَ لَهُمُ السُّوأَى لَا الْحُسْنَى. وَقَالَ آخَرُونَ: هُوَ فَرْضٌ وَاجِبٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا حُبَيْشُ بْنُ مُبَشِّرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ أَبِي عَاصِمٍ، قَالَ: قُلْتُ لِسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ: قَدْ أَعْلَمُ أَنَّ الْغَزْوَ وَاجِبٌ عَلَى النَّاسِ! فَسَكَتَ، وَقَدْ أَعْلَمُ أَنْ لَوْ أَنْكَرَ مَا قُلْتُ لَبَيَّنَ لِي. وَقَدْ بَيَّنَّا فِيمَا مَضَى مَعْنَى قَوْلِهِ: "كُتِبَ " بِمَا فِيهِ الْكِفَايَةُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: وَهُوَ ذُو كُرْهٍ لَكُمْ، فَتَرَكَ ذِكْرَ"ذُو" اكْتِفَاءً بِدَلَالَةِ قَوْلِهِ: "كُرْهٌ لَكُمْ"، عَلَيْهِ، كَمَا قَالَ: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [سُورَةُ يُوسُفَ: 83] وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ رُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ فِي تَأْوِيلِهِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ فِي قَوْلِهِ: {وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} قَالَ: كُرِّهَ إِلَيْكُمْ حِينَئِذٍ. "وَالْكُرْهُ" بِالضَّمِّ: هُوَ مَا حَمَلَ الرَّجُلُ نَفْسَهُ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ إِكْرَاهِ أَحَدٍ إِيَّاهُ عَلَيْهِ، " وَالْكَرْهُ" بِفَتْحِ "الكَافِ"، هُوَ مَا حَمَلَهُ غَيْرُهُ، فَأَدْخَلَهُ عَلَيْهِ كُرْهًا. وَمِمَّنْ حُكِيَ عَنْهُ هَذَا الْقَوْلُ مُعَاذُ بْنُ مُسْلِمٍ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي حَمَّادٍ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ مُسْلِمٍ، قَالَ: الْكُرْهُ الْمَشَقَّةُ، وَالْكَرْهُ الْإِجْبَارُ. وَقَدّ كَانَ بَعْضُ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ يَقُولُ: "الكُرْهُ وَالْكَرْهُ" لُغَتَانِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، مِثْلَ: "الغُسْلِ وَالْغَسْلِ" وَ "الضُّعْفِ وَالضَّعْفِ"، وَ "الرُّهْبِ والرَّهْبِ". وَقَالَ بَعْضُهُمْ: "الكُرْهُ" بِضَمِّ "الكَافِ" اسْمٌ وَ "الكَرْهُ" بِفَتْحِهَا مَصْدَرٌ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: وَلَا تَكْرَهُوا الْقِتَالَ، فَإِنَّكُمْ لَعَلَّكُمْ أَنْ تَكْرَهُوهُ وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ، وَلَا تُحِبُّوا تَرْكَ الْجِهَادِ، فَلَعَلَّكُمْ أَنْ تُحِبُّوهُ وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ، كَمَا: حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطُ، عَنِ السُّدِّيِّ: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ}، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا يَكْرَهُونَ الْقِتَالَ، فَقَالَ: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} يَقُولُ: إِنَّ لَكُمْفِي الْقِتَالِ الْغَنِيمَةَ وَالظُّهُورَ وَالشَّهَادَةَ، وَلَكُمْ فِي الْقُعُودِ أَنْ لَا تَظْهَرُوا عَلَى الْمُشْرِكِينَ، وَلَا تُسْتَشْهَدُوا، وَلَا تُصِيبُوا شَيْئًا. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ السُّلَمِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُجَاهِدٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي هَاشِمٍ الْجَعْفِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَامِرُ بْنُ وَاثِلَةَ قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كُنْتُ رِدْفَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا ابْنَ عَبَّاسٍ ارْضَ عَنِ اللَّهِ بِمَا قَدَّرَ، وَإِنْ كَانَ خِلَافَ هَوَاكَ، فَإِنَّهُ مُثْبَتٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ. قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَأَيْنَ؟ وَقَدْ قَرَأَتُ الْقُرْآنَ! قَالَ: فِي قَوْلِهِ: " وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ "
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ، مِمَّا هُوَ شَرٌّ لَكُمْ، فَلَا تَكْرَهُوا مَا كَتَبْتُ عَلَيْكُمْ مِنْ جِهَادِ عَدُوِّكُمْ، وَقِتَالِ مَنْ أَمَرْتُكُمْ بِقِتَالِهِ، فَإِنِّي أَعْلَمُ أَنَّ قِتَالَكُمْ إِيَّاهُمْ، هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ فِي عَاجِلِكُمْ وَمَعَادِكُمْ، وَتَرْكَكُمْ قِتَالَهُمْ شَرٌّ لَكُمْ، وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ مِنْ ذَلِكَ مَا أَعْلَمُ، يَحُضُّهُمْ جَلَّ ذِكْرُهُ بِذَلِكَ عَلَى جِهَادِ أَعْدَائِهِ، وَيُرَغِّبُهُمْ فِي قِتَالِ مَنْ كَفَرَ بِهِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: يَسْأَلُكَ يَا مُحَمَّدُ أَصْحَابُكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ وَذَلِكَ رَجَبٌ عَنْ قِتَالٍ فِيهِ. وَخَفْضُ "الْقِتَالِ" عَلَى مَعْنَى تَكْرِيرِ"عَنْ" عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ كَانَتْ قِرَاءَةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ فِيمَا ذُكِرَ لَنَا. وَقَدْ:- حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارِ بْنِ الْحَسَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ قَوْلُهُ: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ}، قَالَ: يَقُولُ: يَسْأَلُونَكَ عَنْ قِتَالٍ فِيهِ، قَالَ: وَكَذَلِكَ كَانَ يَقْرَؤُهَا: "عَنْ قِتَالٍ فِيهِ". قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: "قُلْ " يَا مُحَمَّدُ: "قِتَالٌ فِيهِ "- يَعْنِي فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ" كَبِيرٌ "، أَيْ عَظِيمٌ عِنْدَ اللَّهِ اسْتِحْلَالُهُ وَسَفْكُ الدِّمَاءِ فِيهِ. وَمَعْنَى قَوْلِهِ: "قِتَالٌ فِيهِ"، قُلِ الْقِتَالُ فِيهِ كَبِيرٌ. وَإِنَّمَا قَالَ: "قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ"، لِأَنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ لَا تَقْرَعُ فِيهِ الْأَسِنَّةَ، فَيَلْقَى الرَّجُلُ قَاتِلَ أَبِيهِ أَوْ أَخِيهِ فِيهِ فَلَا يُهِيجُهُ تَعْظِيمًا لَهُ، وَتُسَمِّيهِ مُضَرُ "الْأَصَمَّ" لِسُكُونِ أَصْوَاتِ السِّلَاحِ وَقَعْقَعَتِهِ فِيهِ. وَقَدْ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ الْمِصْرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعَيْبُ بْنُ اللَّيْثِ، قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، قَالَ: حَدَّثَنَا الزُّبَيْرُ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: (لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَغْزُو فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ إِلَّا أَنْ يُغْزَى، أَوْ يَغْزُو حَتَّى إِذَا حَضَرَ ذَلِكَ أَقَامَ حَتَّى يَنْسَلِخ). وَقَوْلُهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}. وَمَعْنَى "الصَّدِّ" عَنِ الشَّيْءِ، الْمَنْعُ مِنْهُ، وَالدَّفْعُ عَنْهُ، وَمِنْهُ قِيلَ: "صَدَّ فُلَانٌ بِوَجْهِهِ عَنْ فُلَانٍ"، إِذَا أَعْرَضَ عَنْهُ فَمَنَعَهُ مِنَ النَّظَرِ إِلَيْهِ. وَقَوْلُهُ: {وَكُفْرٌ بِهِ}، يَعْنِي: وَكُفْرٌ بِاللَّهِ، وَ "البَاءِ" فِي"بِهِ" عَائِدَةٌ عَلَى اسْمِ اللَّهِ الَّذِي فِي" سَبِيلِ اللَّهِ". وَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ: وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، وَكُفْرٌ بِهِ، وَعَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَإِخْرَاجُ أَهْلِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ- وَهُمْ أَهْلُهُ وَوُلَاتُهُ- أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الْقِتَالِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ. فَـ “ الصَّدُّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ “ مَرْفُوعٌ بِقَوْلِهِ: {أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ}. وَقَوْلُهُ: {وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ} عَطْفٌ عَلَى “ الصَّدِّ". ثُمَّ ابْتَدَأَ الْخَبَرَ عَنِ الْفِتْنَةِ فَقَالَ: {وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ}، يَعْنِي: الشِّرْكَ أَعْظَمَ وَأَكْبَرَ مِنَ الْقَتْلِيَعْنِي: مِنْ قَتْلِ ابْنِ الْحَضْرَمِيِّ الَّذِي اسْتَنْكَرْتُمْ قَتْلَهُ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَقَدْ كَانَ بَعْضُ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ يَزْعُمُ أَنَّ قَوْلَهُ: {وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} مَعْطُوفٌ عَلَى “ الْقِتَالِ “ وَأَنَّ مَعْنَاهُ: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ، عَنْ قِتَالٍ فِيهِ، وَعَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، فَقَالَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ ـ: {وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ} مِنَ الْقِتَالِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ. وَهَذَا الْقَوْلُ، مَعَ خُرُوجِهِ مِنْ أَقْوَالِ أَهْلِ الْعِلْمِ، قَوْلٌ لَا وَجْهَ لَهُ؛ لِأَنَّ الْقَوْمَ لَمْ يَكُونُوا فِي شَكٍّ مِنْ عَظِيمِ مَا أَتَى الْمُشْرِكُونَ إِلَى الْمُسْلِمِينَ فِي إِخْرَاجِهِمْ إِيَّاهُمْ مِنْ مَنَازِلِهِمْ بِمَكَّةَ فَيَحْتَاجُوا إِلَى أَنْ يَسْأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ إِخْرَاجِ الْمُشْرِكِينَ إِيَّاهُمْ مِنْ مَنَازِلِهِمْ، وَهَلْ ذَلِكَ كَانَ لَهُمْ؟ بَلْ لَمْ يَدَّعِ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا أَنَّهُمْ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ. وَإِذْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَلَمْ يَكُنِ الْقَوْمُ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا عَمَّا ارْتَابُوا بِحُكْمِهِ كَارْتِيَابِهِمْ فِي أَمْرِ قَتْلِ ابْنِ الْحَضْرَمِيِّ إِذِ ادَّعَوْا أَنَّ قَاتِلَهُ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَتَلَهُ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، فَسَأَلُوا عَنْ أَمْرِهِ، لِارْتِيَابِهِمْ فِي حُكْمِهِ. فَأَمَّا إِخْرَاجُ الْمُشْرِكِينَ أَهْلَ الْإِسْلَامِ مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، فَلَمْ يَكُنْ فِيهِمْ أَحَدٌ شَاكًّا أَنَّهُ كَانَ ظُلْمًا مِنْهُمْ لَهُمْ فَيَسْأَلُوا عَنْهُ. وَلَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ التَّأْوِيلِ جَمِيعًا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَبَبِ قَتْلِ ابْنِ الْحَضْرَمِيِّ وَقَاتِلِهِ.
ذِكْرُ الرِّوَايَةِ عَمَّنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ الْفَضْلِ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ قَالَ: حَدَّثَنِي الزُّهْرِيُّ وَيَزِيدُ بْنُ رُومَانَ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَحْشٍ فِي رَجَبَ مَقْفَلَهُ مَنْ بَدَرٍ الْأَوْلَى، وَبَعَثَ مَعَهُ بِثَمَانِيَةِ رَهْطٍ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ، لَيْسَ فِيهِمْ مِنَ الْأَنْصَارِ أَحَدٌ، وَكَتَبَ لَهُ كِتَابًا، وَأَمَرَهُ أَلَّا يَنْظُرَ فِيهِ حَتَّى يَسِيرَ يَوْمَيْنِ ثُمَّ يَنْظُرَ فِيهِ فَيَمْضِي لِمَا أَمَرَهُ، وَلَا يَسْتَكْرِهَ مِنْ أَصْحَابِهِ أَحَدًا. وَكَانَ أَصْحَابُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَحْشٍ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ؛ مِنْ بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ أَبُو حُذَيْفَةَ [بْنُ عُتْبَةَ] بْنِ رَبِيعَةَ- وَمِنْ بَنِي أُمِّيَّةَ- بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ ثُمَّ مِنْ حُلَفَائِهِمْ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَحْشِ بْنِ رِئَابٍ وَهُوَ أَمِيرُ الْقَوْمِ وَعَكَاشَةُ بْنُ مِحْصَنِ بْنِ حُرْثَانَ أَحَدُ بَنِي أَسَدِ بْنِ خُزَيْمَةَ- وَمِنْ بَنِي نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ عُتْبَةُ بْنُ غَزْوَانَ حَلِيفٌ لَهُمْ- وَمِنْ بَنِي زَهْرَةَ بْنِ كِلَابٍ: سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَاصٍّ- وَمِنْ بَنِي عِدِيِّ بْنِ كَعْبٍ عَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ حَلِيفٌ لَهُمْ وَوَاقِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَنَاةَ بْنِ عُرَيْنِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ يَرْبُوعِ بْنِ حَنْظَلَةَ وَخَالِدُ بْنُ الْبُكَيْرِ أَحَدُ بَنِي سَعْدِ بْنِ لَيْثٍ حَلِيفٌ لَهُمْ- وَمِنْ بَنِي الْحَارِثِ بْنِ فِهْرِ: سُهَيْلُ بْنُ بَيْضَاءَ. فَلَمَّا سَارَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَحْشٍ يَوْمَيْنِ فَتَحَ الْكِتَابَ وَنَظَرَ فِيهِ، فَإِذَا فِيهِ: “ إِذَا نَظَرَتْ إِلَى كِتَابِي هَذَا، فَسِرْ حَتَّى تَنْزِلَ نَخْلَةً بَيْنَ مَكَّةَ وَالطَّائِفِ فَتَرَصَّدْ بِهَا قُرَيْشًا وَتَعَلَّمْ لَنَا مِنْ أَخْبَارِهِمْ". فَلَمَّا نَظَرَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَحْشٍ فِي الْكِتَابِ قَالَ: (سَمْعًا وَطَاعَةً)، ثُمَّ قَالَ لِأَصْحَابِهِ: قَدْ أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ أَمْضِيَ إِلَى نَخْلَةٍ فَأَرْصُدَ بِهَا قُرَيْشًا حَتَّى آتِيَهُ مِنْهُمْ بِخَبَرٍ، وَقَدْ نَهَانِي أَنْ أَسْتَكْرِهَ أَحَدًا مِنْكُمْ، فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُرِيدُ الشَّهَادَةَ وَيَرْغَبُ فِيهَا فَلْيَنْطَلِقْ، وَمِنْ كَرِهَ ذَلِكَ فَلْيَرْجِعْ، فَأَمَّا أَنَا فَمَاضٍ لِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَضَى وَمَضَى مَعَهُ أَصْحَابُهُ، فَلَمْ يَتَخَلَّفْ عَنْهُ [مِنْهُمْ] أَحَدٌ، وَسَلَكَ عَلَى الْحِجَازِ حَتَّى إِذَا كَانَ بِمَعْدِنٍ فَوْقَ الْفُرْعِ يُقَالُ لَهُ بِحَرَّانَ، أَضَلَّ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَاصٍّ وَعُتْبَةُ بْنُ غَزْوَانَ بَعِيرًا لَهُمَا كَانَا عَلَيْهِ يَعْتَقِبَانِهِ، فَتَخَلَّفَا عَلَيْهِ فِي طَلَبِهِ، وَمَضَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَحْشٍ وَبَقِيَّةُ أَصْحَابِهِ حَتَّى نَزَلَ بِنَخْلَةٍ فَمَرَّتْ بِهِ عِيرٌ لِقُرَيْشٍ تَحْمِلُ زَبِيبًا وَأُدْمًا وَتِجَارَةً مِنْ تِجَارَةِ قُرَيْشٍ فِيهَا مِنْهُمْ عَمْرُو بْنُ الْحَضْرَمِيِّ وَعُثْمَانُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُغِيرَةِ وَأَخُوهُ نَوْفَلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُغِيرَةَ الْمَخْزُومِيَّانِ وَالْحَكَمُ بْنُ كَيْسَانَ مَوْلَى هِشَامِ بْنِ الْمُغِيرَةَ فَلَمَّا رَآهُمُ الْقَوْمُ هَابُوهُمْ، وَقَدْ نَزَلُوا قَرِيبًا مِنْهُمْ، فَأَشْرَفَ لَهُمْ عُكَاشَةُ بْنُ مِحْصَنٍ وَقَدْ كَانَ حَلَقَ رَأْسَهُ، فَلَمَّا رَأَوْهُ أَمِنُوا وَقَالُوا: عُمَّارٌ! فَلَا بَأْسَ عَلَيْنَا مِنْهُمْ. وَتَشَاوَرَ الْقَوْمُ فِيهِمْ، وَذَلِكَ فِي آخِرِ يَوْمٍ مِنْ جُمَادَى، فَقَالَ الْقَوْمُ: وَاللَّهِ لَئِنْ تَرَكْتُمُ الْقَوْمَ هَذِهِ اللَّيْلَةَ لِيَدْخُلُنَّ الْحَرَمَ فَلْيَمْتَنِعُنَّ بِهِ مِنْكُمْ، وَلَئِنْ قَتَلْتُمُوهُمْ لَتَقْتُلُنَّهُمْ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ! فَتَرَدَّدَ الْقَوْمُ فَهَابُوا الْإِقْدَامَ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ شَجُعُوا عَلَيْهِمْ، وَأَجْمَعُوا عَلَى قَتْلِ مَنْ قَدَرُوا عَلَيْهِ مِنْهُمْ، وَأَخْذِ مَا مَعَهُمْ. فَرَمَى وَاقْدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ التَّمِيمِيُّ عَمْرَو بْنَ الْحَضْرَمِيِّ بِسَهْمٍ فَقَتَلَهُ، وَاسْتَأْسَرَ عُثْمَانَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ وَالْحَكَمَ بْنَ كَيْسَانَ وَأَفْلَتَ نَوْفَلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ فَأَعْجَزَهُمْ. وَقَدِمَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَحْشٍ وَأَصْحَابُهُ بِالْعِيرِ وَالْأَسِيرَيْنِ، حَتَّى قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُ آلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَحْشٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَحْشٍ قَالَ لِأَصْحَابِهِ: (إِنَّ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمَّا غَنِمْتُمُ الْخُمُسَ. وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُفْرَضَ الْخُمُسُ مِنَ الْغَنَائِمِ، فَعَزَلَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خُمُسَ الْعِيرِ، وَقَسَّمَ سَائِرَهَا عَلَى أَصْحَابِهِ فَلَمَّا قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: مَا أَمَرْتُكُمْ بِقِتَالٍ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ! فَوَقَفَ الْعِيرُ وَالْأَسِيرَيْنِ، وَأَبَى أَنْ يَأْخُذَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَلَمَّا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ، سُقِطَ فِي أَيْدِي الْقَوْمِ، وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ هَلَكُوا، وَعَنَّفَهُمُ الْمُسْلِمُونَ فِيمَا صَنَعُوا، وَقَالُوا لَهُمْ: صَنَعْتُمْ مَا لَمْ تُؤْمَرُوا بِهِ وَقَاتَلْتُمْ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ وَلَمْ تُؤْمَرُوا بِقِتَالٍ! وَقَالَتْ قُرَيْشٌ: قَدِ اسْتَحَلَّ مُحَمَّدٌ وَأَصْحَابُهُ الشَّهْرَ الْحَرَامَ، فَسَفَكُوا فِيهِ الدَّمَ، وَأَخَذُوا فِيهِ الْأَمْوَالَ وَأَسَرُوا). [فِيهِ الرِّجَالَ] فَقَالَ مَنْ يَرُدُّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِمَّنْ كَانَ بِمَكَّةَ إِنَّمَا أَصَابُوا مَا أَصَابُوا فِي جُمَادَى! وَقَالَتْ يَهُودُ-تَتَفَاءَلُ بِذَلِكَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ-: عَمْرُو بْنُ الْحَضْرَمِيِّ قَتَلَهُ وَاقَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ! “ عَمْرٌو “، عَمَرَتِ الْحَرْبُ! وَ“ الْحَضْرَمِيُّ “، حَضَرَتِ الْحَرْبُ! “ وَوَاقِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ “، وَقَدَتِ الْحَرْبُ! فَجَعَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ وَبِهِمْ. فَلَمَّا أَكْثَرَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ أَنْزَلَ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ عَلَى رَسُولِهِ: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ} أَيْ: عَنْ قِتَالٍ فِيهِ {قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} إِلَى قَوْلِهِ: {وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ}، أَيْ إِنْ كُنْتُمْ قَتَلْتُمْ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، فَقَدْ صَدُّوكُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَعَ الْكُفْرِ بِهِ، وَعَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَإِخْرَاجُكُمْ عَنْهُ إِذْ أَنْتُمْ أَهَّلُهُ وَوُلَاتُهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ مَنْ قَتَلِ مَنْ قَتَلْتُمْ مِنْهُمْ، {وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ}، أَيْ: قَدْ كَانُوا يَفْتِنُونَ الْمُسْلِمَ عَنْ دِينِهِ حَتَّى يَرُدُّوهُ إِلَى الْكُفْرِ بَعْدَ إِيمَانِهِ، وَذَلِكَ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الْقَتْلِ {وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكِمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا}، أَيْ: هُمْ مُقِيمُونَ عَلَى أَخْبَثِ ذَلِكَ وَأَعْظَمِهِ غَيْرُ تَائِبِينَ وَلَا نَازِعِينَ. فَلَمَّا نَزَلَ الْقُرْآنُ بِهَذَا مِنَ الْأَمْرِ، وَفَرَّجَ اللَّهُ عَنِ الْمُسْلِمِينَ مَا كَانُوا فِيهِ مِنَ الشَّفَقِ، قَبَضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعِيرَ وَالْأَسِيرَيْنِ. حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ عَنِ السُّدِّيِّ: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ}، وَذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ سَرِيَّةً- وَكَانُوا سَبْعَةَ نَفَرٍ- وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَحْشٍ الْأَسَدِيَّ وَفِيهِمْ عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ وَأَبُو حُذَيْفَةَ بْنُ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَاصٍّ وَعُتْبَةُ بْنُ غَزْوَانَ السُّلَمِيُّ حَلِيفٌ لِبَنِي نَوْفَلٍ وَسُهَيْلُ بْنُ بَيْضَاءَ وَعَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ وَوَاقِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْيَرْبُوعِيُّ حَلِيفٌ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ. وَكَتَبَ مَعَ ابْنِ جَحْشٍ كِتَابًا وَأَمَرَهُ أَلَّا يَقْرَأَهُ حَتَّى يَنْزِلَ [بَطْنَ] مَلَلٍ فَلَمَّا نَزَلَ بِبَطْنِ مَلَلٍ فَتْحَ الْكِتَابَ، فَإِذَا فِيهِ أَنْ سِرْ حَتَّى تَنْزِلَ بَطْنَ نَخْلَةَ فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْمَوْتَ فَلْيَمْضِ وَلْيُوصِ، فَإِنِّي مُوصٍ وَمَاضٍ لِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ. فَسَارَ وَتَخَلَّفَ عَنْهُ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَاصٍّ وَعُتْبَةُ بْنُ غَزْوَانَ أَضَلَّا رَاحِلَةً لَهُمَا، فَأَتَيَا بِحَرَّانَ يَطْلُبَانِهَا، وَسَارَ ابْنُ جَحْشٍ إِلَى بَطْنِ نَخْلَةَ فَإِذَا هُمْ بِالْحَكَمِ بْنِ كَيْسَانَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُغِيرَةَ وَالْمُغِيرَةِ بْنِ عُثْمَانَ وَعَمْرِو بْنِ الْحَضْرَمِيِّ، فَاقْتَتَلُوا، فَأَسَرُوا الْحَكَمَ بْنَ كَيْسَانَ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْمُغِيرَةِ، وَانْفَلَتَ الْمُغِيرَةُ وَقُتِلَ عَمْرُو بْنُ الْحَضْرَمِيِّ قَتْلَهُ وَاقَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ. فَكَانَتْأَوَّلَ غَنِيمَةٍ غَنِمَهَا أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى الْمَدِينَةِ بِالْأَسِيرَيْنِ وَمَا غَنِمُوا مِنَ الْأَمْوَالِ، أَرَادَ أَهْلُ مَكَّةَ أَنْ يُفَادُوا بِالْأَسِيرَيْنِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: حَتَّى نَنْظُرَ مَا فَعَلَ صَاحِبَانَا! فَلَمَّا رَجَعَ سَعْدٌ وَصَاحِبُهُ فَادَى بِالْأَسِيرَيْنِ، فَفَجَرَ عَلَيْهِ الْمُشْرِكُونَ وَقَالُوا: مُحَمَّدٌ يَزْعُمُ أَنَّهُ يَتَّبِعُ طَاعَةَ اللَّهِ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنِ اسْتَحَلَّ الشَّهْرَ الْحَرَامَ، وَقَتَلَ صَاحِبَنَا فِي رَجَبَ! فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: إِنَّمَا قَتَلْنَاهُ فِي جُمَادَى!- وَقِيلَ: فِي أَوَّلِ لَيْلَةٍ مِنْ رَجَبَ، وَآخَرِ لَيْلَةٍ مِنْ جُمَادَى- وَغَمَدَ الْمُسْلِمُونَ سُيُوفَهُمْ حِينَ دَخَلَ رَجَبٌ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ يُعَيِّرُ أَهْلَ مَكَّةَ: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} لَا يَحِلُّ، وَمَا صَنَعْتُمْ أَنْتُمْ يَا مَعْشَرَ الْمُشْرِكِينَ أَكْبَرُ مِنَالْقَتْلِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِحِينَ كَفَرْتُمْ بِاللَّهِ، وَصَدَدْتُمْ عَنْهُ مُحَمَّدًا وَأَصْحَابَهُ، وَإِخْرَاجُ أَهْلِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ مِنْهُ حِينَ أَخْرَجُوا مُحَمَّدًا أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ عِنْدَ اللَّهِ، وَالْفِتْنَةُ- هِيَ الشِّرْكُ- أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الْقَتْلِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ}. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى الصَّنْعَانِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيُّ عَنْ أَبِيهِ: أَنَّهُ حَدَّثَهُ رَجُلٌ، عَنْ أَبِي السَّوَّارِ يُحَدِّثُهُ عَنْ جُنْدُبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: أَنَّهُ بَعَثَ رَهْطًا، فَبَعَثَ عَلَيْهِمْ أَبَا عُبَيْدَةَ. فَلَمَّا أَخَذَ لِيَنْطَلِقَ، بَكَى صَبَابَةً إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ. فَبَعَثَ رَجُلًا مَكَانَهُ يُقَالُ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَحْشٍ وَكَتَبَ لَهُ كِتَابًا، وَأَمَرَهُ أَلَّا يَقْرَأَ الْكِتَابَ حَتَّى يَبْلُغَ كَذَا وَكَذَا: “ وَلَا تُكْرِهَنَّ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِكَ عَلَى السَّيْرِ مَعَكَ". فَلَمَّا قَرَأَ الْكِتَابَ اسْتَرْجَعَ وَقَالَ: سَمْعًا وَطَاعَةً لِأَمْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ! فَخَبَّرَهُمُ الْخَبَرَ وَقَرَأَ عَلَيْهِمُ الْكِتَابَ، فَرَجَعَ رَجُلَانِ وَمَضَى بَقِيَّتُهُمْ. فَلَقُوُا ابْنَ الْحَضْرَمِيِّ فَقَتَلُوهُ، وَلَمْ يَدْرُوا ذَلِكَ الْيَوْمَ: أَمِنْ رَجَبَ أَوْ مِنْ جُمَادَى؟ فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ لِلْمُسْلِمِينَ: فَعَلْتُمْ كَذَا وَكَذَا فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ! فَأَتَوُا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَدَّثُوهُ الْحَدِيثَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ـ: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ}- وَالْفِتْنَةُ هِيَ الشِّرْكُ. وَقَالَ بَعْضُ الَّذِينَ- أَظُنُّهُ قَالَ-: كَانُوا فِي السَّرِيَّةِ: وَاللَّهِ مَا قَتَلَهُ إِلَّا وَاحِدٌ! فَقَالَ: إِنْ يَكُنْ خَيْرًا فَقَدْ وَلِيَتَ! وَإِنْ يَكُنْ ذَنْبًا فَقَدْ عَمِلْت»! حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ عَنْ عِيسَى عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ}، قَالَ: إِنَّ رَجُلًا مِنْ بَنِي تَمِيمٍ أَرْسَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَرِيَّةٍ، فَمَرَّ بِابْنِ الْحَضْرَمِيِّ يَحْمِلُ خَمْرًا مِنَ الطَّائِفِ إِلَى مَكَّةَ فَرَمَاهُ بِسَهْمٍ فَقَتَلَهُ. وَكَانَ بَيْنَ قُرَيْشٍ وَمُحَمَّدٍ عَقْدٌ، فَقَتَلَهُ فِي آخِرِ يَوْمٍ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ وَأَوَّلِ يَوْمٍ مِنْ رَجَبَ، فَقَالَتْ قُرَيْشٌ: فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ! وَلَنَا عَهْدٌ! فَأَنْزَلَ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ ـ: {قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ} وَصَدٌّ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ {وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ} مِنْ قَتْلِ ابْنِ الْحَضْرَمِيِّ، وَالْفِتْنَةُ كُفْرٌ بِاللَّهِ، وَعِبَادَةُ الْأَوْثَانِ أَكْبَرُ مِنْ هَذَا كُلِّهِ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ وَعُثْمَانَ الْجَزَرِيِّ وَعَنْ مِقْسَمٍ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَقِيَ وَاقَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَمْرَو بْنَ الْحَضْرَمِيِّ فِي أَوَّلِ لَيْلَةٍ مِنْ رَجَبَ، وَهُوَ يَرَى أَنَّهُ مِنْ جُمَادَى، فَقَتَلَهُ، وَهُوَأَوَّلُ قَتِيلٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَبَعْدُ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ. فَعَيَّرَ الْمُشْرِكُونَ الْمُسْلِمِينَ فَقَالُوا: أَتُقَتِّلُونَ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ! فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} يَقُولُ: وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِاللَّهِ “ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ “ وَصَدٌّ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ “ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ “، مِنْ قَتْلِ عَمْرِو بْنِ الْحَضْرَمِيِّ “ وَالْفِتْنَةُ “، يَقُولُ: الشِّرْكُ الَّذِي أَنْتُمْ فِيهِ أَكْبَرُ مِنْ ذَلِكَ أَيْضًا قَالَ الزُّهْرِيُّ وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا بَلَغَنَا يُحَرِّمُالْقِتَالَ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِثُمَّ أُحِلَّ [لَهُ] بَعْدُ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلَهُ: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ}، وَذَلِكَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ صَدُّوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَدُّوهُ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فِي شَهْرٍ حَرَامٍ، فَفَتَحَ اللَّهُ عَلَى نَبِيِّهِ فِي شَهْرٍ حَرَامٍ مِنَ الْعَامِ الْمُقْبِلِ. فَعَابَ الْمُشْرِكُونَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقِتَالَ فِي شَهْرٍ حَرَامٍ فَقَالَ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ ـ: {وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ} مِنَ الْقَتْلِ فِيهِ وَأَنَّ مُحَمَّدًا بَعَثَ سَرِيَّةً، فَلَقُوا عَمْرَو بْنَ الْحَضْرَمِيِّ وَهُوَ مُقْبِلٌ مِنَ الطَّائِفِ آخَرَ لَيْلَةٍ مِنْ جُمَادَى، وَأَوَّلَ لَيْلَةٍ مِنْ رَجَبَ وَأَنَّ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانُوا يَظُنُّونَ أَنَّ تِلْكَ اللَّيْلَةَ مِنْ جُمَادَى، وَكَانَتْ أَوَّلَ رَجَبَ وَلَمْ يَشْعُرُوا، فَقَتَلَهُ رَجُلٌ مِنْهُمْ وَاحِدٌ وَأَنَّ الْمُشْرِكِينَ أَرْسَلُوا يُعَيِّرُونَهُ بِذَلِكَ فَقَالَ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ ـ: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} وَغَيْرُ ذَلِكَ أَكْبَرُ مِنْهُ، “ صَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ “ إِخْرَاجُ أَهْلِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَكْبَرُ مِنَ الَّذِي أَصَابَ مُحَمَّدٌ وَالشَّرَكُ بِاللَّهِ أَشَدُّ. حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ حُصَيْنٍ عَنْ أَبِي مَالِكٍ: قَالَ لَمَّا نَزَلَتْ: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} إِلَى قَوْلِهِ: {وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ}، اسْتَكْبَرُوهُ. فَقَالَ: وَالْفِتْنَةُ الشِّرْكُ الَّذِي أَنْتُمْ عَلَيْهِ مُقِيمُونَ أَكْبَرُ مِمَّا اسْتَكْبَرْتُمْ. حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارِ بْنِ الْحَسَنِ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ حُصَيْنٍ عَنْ أَبِي مَالِكٍ الْغِفَارِيِّ قَالَ: (بَعْثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَحْشٍ فِي جَيْشٍ فَلَقِيَ نَاسًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ بِبَطْنِ نَخْلَةَ وَالْمُسْلِمُونَ يَحْسَبُونَ أَنَّهُ آخَرُ يَوْمٍ مِنْ جُمَادَى وَهُوَ أَوَّلُ يَوْمٍ مِنْ رَجَبَ، فَقَتَلَ الْمُسْلِمُونَ ابْنَ الْحَضْرَمِيِّ، فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: أَلَسْتُمْ تَزْعُمُونَ أَنَّكُمْ تُحَرِّمُونَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْبَلَدَ الْحَرَامَ، وَقَدْ قَتَلْتُمْ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ! فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ} إِلَى قَوْلِهِ {أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ} مِنَ الَّذِي اسْتَكْبَرْتُمْ مِنْ قَتْلِ ابْنِ الْحَضْرَمِيِّ، وَ“ الْفِتْنَةُ “- الَّتِي أَنْتُمْ عَلَيْهَا مُقِيمُونَ، يَعْنِي الشِّرْكَ- {أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ}. حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارٍ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: وَكَانَ يُسَمِّيهَا- يَقُولُ: لَقِيَ وَاقْدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ التَّمِيمِيُّ عَمْرَو بْنَ الْحَضْرَمِيِّ بِبَطْنِ نَخْلَةَ فَقَتَلَهُ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: قُلْتُ لِعَطَاءٍ قَوْلُهُ: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ}، فِيمَنْ نَزَلَتْ؟ قَالَ: لَا أَدْرِي قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: وَقَالَ عِكْرِمَةُ وَمُجَاهِدٌ: فِي عَمْرِو بْنِ الْحَضْرَمِيِّ. قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ وَأَخْبَرَنَا ابْنُ أَبِي حُسَيْنٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ ذَلِكَ أَيْضًا. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: قَالَ مُجَاهِدٌ: {قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}،- قَالَ: يَقُولُ: صَدٌ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ “ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ “- فَكُلُّ هَذَا أَكْبَرُ مِنْ قَتْلِ ابْنِ الْحَضْرَمِيِّ- {وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ}- كُفْرٌ بِاللَّهِ وَعِبَادَةُ الْأَوْثَانِ، أَكْبَرُ مِنْ هَذَا كُلِّهِ. حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ الْفَرَجِ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ الْفَضْلَ بْنَ خَالِدٍ قَالَ أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ بْنُ سُلَيْمَانَ الْبَاهِلِيُّ، قَالَ سَمِعَتُ الضَّحَّاكَ بْنَ مُزَاحِمٍ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ}، كَانَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَتَلُوا ابْنَ الْحَضْرَمِيِّ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، فَعَيَّرَ الْمُشْرِكُونَ الْمُسْلِمِينَ بِذَلِكَ، فَقَالَ اللَّهُ: قِتَالٌ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ كَبِيرٌ، وَأَكْبَرُ مِنْ ذَلِكَ صَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ، وَإِخْرَاجُ أَهْلِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَهَذَانَ الْخَبِرَانِ اللَّذَانِ ذَكَرْنَاهُمَا عَنْ مُجَاهِدٍ وَالضَّحَّاكِ يُنْبِئَانِ عَنْ صِحَّةِ مَا قُلْنَا فِي رَفْعِ “ الصَّدِّ “ وَ“ الْكُفْرِ بِهِ “، وَأَنَّ رَافِعَهُ {أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ}. وَهُمَا يُؤَكِّدَانِ صِحَّةَ مَا رَوَيْنَا فِي ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَيَدُلَّانِ عَلَى خَطَأِ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ مَرْفُوعٌ عَلَى الْعَطْفِ عَلَى “ الْكَبِيرِ “، وَقَوْلِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ مَعْنَاهُ: وَكَبِيرٌ صَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَزَعَمَ أَنَّ قَوْلَهُ: {وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ}، خَبَرٌ مُنْقَطِعٌ عَمَّا قَبْلَهُ مُبْتَدَأٌ. حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ قَالَ: أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ سَالِمٍ عَنِ الشَّعْبِيِّ فِي قَوْلِهِ: {وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ}، قَالَ: يَعْنِي بِهِ الْكُفْرَ. حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ: {وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ} مِنْ ذَلِكَ. ثُمَّ عَيَّرَ الْمُشْرِكِينَ بِأَعْمَالِهِمْ أَعْمَالِ السُّوءِ فَقَالَ: {وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ}، أَيِ الشِّرْكُ بِاللَّهِ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ. وَبِمَثَلِ الَّذِي قُلْنَا مِنَ التَّأْوِيلِ فِي ذَلِكَ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدِ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبَى قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ: حَدَّثَنِى أَبِي، عَنْ أَبِيهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا قَتَلَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمْرَو بْنَ الْحَضْرَمِيِّ فِي آخِرِ لَيْلَةٍ مِنْ جُمَادَى وَأَوَّلِ لَيْلَةٍ مِنْ رَجَبَ، أَرْسَلَ الْمُشْرِكُونَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَيِّرُونَهُ بِذَلِكَ، فَقَالَ: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ}، وَغَيْرُ ذَلِكَ أَكْبَرُ مِنْهُ: {صَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ} مِنَ الَّذِي أَصَابَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَمَّا أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ فَإِنَّهُمِ اخْتَلَفُوا فِي الَّذِي ارْتَفَعَ بِهِ قَوْلُهُ: {وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}. فَقَالَ بَعْضُ نَحْوِيِّيِ الْكُوفِيِّينَ: فِي رَفْعِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا، أَنْ يَكُونَ {الصَّدُّ} مَرْدُودًا عَلَى “ الْكَبِيرِ “ يُرِيدُ: قُلِ الْقِتَالُ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ. وَإِنْ شِئْتَ جَعَلْتَ “ الصَّدَّ “ “ كَبِيرًا “، يُرِيدُ بِهِ: قُلِ الْقِتَالُ فِيهِ كَبِيرٌ، وَكَبِيرٌ الصَّدُّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْكَفْرُ بِهِ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: قَالَ فَأَخْطَأَ-يَعْنِي الْفَرَّاءَ- فِي كِلَا تَأْوِيلَيْهِ. وَذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا رَفَعَ “ الصَّدَّ “ عَطْفًا بِهِ عَلَى “ كَبِيرٍ “ يَصِيرُ تَأْوِيلُ الْكَلَامِ: قُلِ الْقِتَالُ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، وَكُفْرٌ بِاللَّهِ. وَذَلِكَ مِنَ التَّأْوِيلِ خِلَافُ مَا عَلَيْهِ أَهْلُ الْإِسْلَامِ جَمِيعًا. لِأَنَّهُ لَمْ يَدَّعِ أَحَدٌ أَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى جَعَلَ الْقِتَالَ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ كُفْرًا بِاللَّهِ، بَلْ ذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُتَوَهَّمَ عَلَى عَاقِلٍ يَعْقِلُ مَا يَقُولُ أَنْ يَقُولَهُ. وَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَقُولَهُ ذُو فِطْرَةٍ صَحِيحَةٍ، وَاللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ يَقُولُ فِي إِثْرِ ذَلِكَ: {وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ}؟! فَلَوْ كَانَ الْكَلَامُ عَلَى مَا رَآهُ جَائِزًا فِي تَأْوِيلِهِ هَذَا، لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ إِخْرَاجُ أَهْلِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَانَ أَعْظَمَ عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الْكُفْرِ بِهِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ يَقُولُ فِي إِثْرِهِ: {وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ}. وَفِي قِيَامِ الْحُجَّةِ بِأَنْ لَا شَيْءَ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الْكُفْرِ بِهِ، مَا يُبَيِّنُ عَنْ خَطَأِ هَذَا الْقَوْلِ. وَأَمَّا إِذَا رَفَعَ “ الصَّدَّ “ بِمَعْنَى مَا زَعَمَ أَنَّهُ الْوَجْهُ الْآخَرُ- وَذَلِكَ رَفَعَهُ بِمَعْنَى: وَكَبِيرٌ صَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، ثُمَّ قِيلَ: {وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ}- صَارَ الْمَعْنَى إِلَى أَنْإِخْرَاجَ أَهْلِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِأَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الْكُفْرِ بِاللَّهِ وَالصَّدِّ عَنْ سَبِيلِهِ، وَعَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ. وَمُتَأَوِّلُ ذَلِكَ كَذَلِكَ، دَاخِلٌ مِنَ الْخَطَأِ فِي مِثْلِ الَّذِي دَخَلَ فِيهِ الْقَائِلُ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ: مِنْ تَصْيِيرِهِ بَعْضَ خِلَالِ الْكُفْرِ أَعْظَمَ عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الْكُفْرِ بِعَيْنِهِ. وَذَلِكَ مِمَّا لَا يُخَيَّلُ عَلَى أَحَدٍ خَطَؤُهُ وَفَسَادُهُ. وَكَانَ بَعْضُ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ يَقُولُ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ فِي رَفْعِ “ الصَّدِّ “، وَيَزْعُمُ أَنَّهُ مَعْطُوفٌ بِهِ عَلَى “ الْكَبِيرِ “ وَيَجْعَلُ قَوْلَهُ: {وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ} مَرْفُوعًا عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَقَدْ بَيَّنَّا فَسَادَ ذَلِكَ وَخَطَأَ تَأْوِيلِهِ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: ثُمَّ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي قَوْلِهِ: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ}، هَلْ هُوَ مَنْسُوخٌ أَمْ ثَابِتُ الْحُكْمِ؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ مَنْسُوخٌ بِقَوْلِ اللَّهِ جَلَّ وَعَزَّ ـ: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} [سُورَةَ التَّوْبَةِ: 36]، وَبِقَوْلِهِ: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [سُورَةَ التَّوْبَةِ: 5] ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: قَالَ عَطَاءُ بْنُ مَيْسَرَةَ: أَحَلَّ الْقِتَالَ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ فِي “ بَرَاءَةٌ “ قَوْلُهُ: {فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً} [سُورَةَ التَّوْبَةِ: 36]: يَقُولُ: فِيهِنَّ وَفِي غَيْرِهِنَّ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا مُعَمِّرٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ، فِيمَا بَلَغْنَا، يُحَرِّمُ الْقِتَالَ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، ثُمَّ أُحِلَّ بَعْدُ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ ذَلِكَ حَكَمٌ ثَابِتٌ لَا يَحِلُّ الْقِتَالُ لِأَحَدٍ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ بِهَذِهِ الْآيَةِ، لِأَنَّ اللَّهَ جَعَلَ الْقِتَالَ فِيهِ كَبِيرًا. ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: قُلْتُ لِعَطَاءٍ: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ}، قُلْتُ: مَا لَهُمْ! وَإِذْ ذَاكَ لَا يَحِلُّ لَهُمْ أَنْ يَغْزُوا أَهْلَ الشِّرْكِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، ثُمَّ غَزَوْهُمْ بَعْدُ فِيهِ؟ فَحَلَفَ لِي عَطَاءٌ بِاللَّهِ: مَا يَحِلُّ لِلنَّاسِ أَنْ يَغْزُوا فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، وَلَا أَنْ يُقَاتِلُوا فِيهِ، وَمَا يُسْتَحَبُّ. قَالَ: وَلَا يَدْعُونَ إِلَى الْإِسْلَامِ قَبْلَ أَنْ يُقَاتَلُوا، وَلَا إِلَى الْجِزْيَةِ، تَرَكُوا ذَلِكَ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ مَا قَالَهُ عَطَاءُ بْنُ مَيْسَرَةَ: مِنْ أَنَّ النَّهْيَ عَنْقِتَالِ الْمُشْرِكِينَ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِمَنْسُوخٌ بِقَوْلِ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ ـ: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} [سُورَةَ التَّوْبَةِ: 36]. وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ نَاسِخٌ لِقَوْلِهِ: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ}، لِتَظَاهُرِ الْأَخْبَارِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ غَزَا هَوَازِنَ بِحُنَيْنٍ وَثَقِيفًا بِالطَّائِفِ وَأَرْسَلَ أَبَا عَامِرٍ إِلَى أَوْطَاسٍ لِحَرْبِ مَنْ بِهَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ، وَذَلِكَ فِي شَوَّالٍ وَبَعْضِ ذِي الْقِعْدَةِ، وَهُوَ مِنَ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ. فَكَانَ مَعْلُومًا بِذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْقِتَالُ فِيهِنَّ حَرَامًا وَفِيهِ مَعْصِيَةً، كَانَ أَبْعَدَ النَّاسِ مِنْ فِعْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ. وَأُخْرَى، أَنَّ جَمِيعَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِسِيَرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تَتَدَافَعُ أَنَّ بَيْعَةَ الرِّضْوَانِ عَلَى قِتَالِ قُرَيْشٍ كَانَتْ فِي ذِي الْقِعْدَةِ، وَأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا دَعَا أَصْحَابَهُ إِلَيْهَا يَوْمَئِذٍ، لِأَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ قَتَلَهُ الْمُشْرِكُونَ إِذْ أَرْسَلَهُ إِلَيْهِمْ بِمَا أَرْسَلَهُ بِهِ مِنَ الرِّسَالَةِ، فَبَايَعَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَنْ يُنَاجِزَ الْقَوْمَ الْحَرْبَ وَيُحَارِبَهُمْ، حَتَّى رَجَعَ عُثْمَانُ بِالرِّسَالَةِ، جَرَى بَيْنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقُرَيْشٍ الصُّلْحُ، فَكَفَّ عَنْ حَرْبِهِمْ حِينَئِذٍ وَقِتَالِهِمْ. وَكَانَ ذَلِكَ فِي ذِي الْقِعْدَةِ، وَهُوَ مِنَ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ. فَإِذْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَبَيِّنٌ صِحَّةُ مَا قُلْنَا فِي قَوْلِهِ: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ}، وَأَنَّهُ مَنْسُوخٌ. فَإِذَا ظَنَّ ظَانٌّ أَنَّ النَّهْيَ عَنِ الْقِتَالِ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ كَانَ بَعْدَ اسْتِحْلَالِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِيَّاهُنَّ لِمَا وَصَفْنَا مِنْ حُرُوبِهِ. فَقَدْ ظَنَّ جَهْلًا؛ وَذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ- أَعْنِي قَوْلَهُ: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ}- فِي أَمْرِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَحْشٍ وَأَصْحَابِهِ، وَمَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ وَأَمْرِ الْقَتِيلِ الَّذِي قَتَلُوهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي أَمْرِهِ هَذِهِ الْآيَةَ فِي آخِرِ جُمَادَى الْآخِرَةِ مِنَ السَّنَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ مَقْدَمِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ وَهِجْرَتِهِ إِلَيْهَا، وَكَانَتْ وَقْعَةُ حُنَيْنٍ وَالطَّائِفِ فِي شَوَّالٍ مِنْ سَنَةِ ثَمَانٍ مِنْ مَقْدِمِهِ الْمَدِينَةَ وَهِجْرَتِهِ إِلَيْهَا، وَبَيْنَهُمَا مِنَ الْمُدَّةِ مَا لَا يَخْفَى عَلَى أَحَدٍ.
|